متابعة – ريموت نيوز
لم يكن حدثا عابرا في تاريخ العراق، بل كان إيذانا ببدء سلسلة من الانقلابات العسكرية في المنطقة العربية برمتها، ففي 29 أكتوبر/تشرين الأول 1936 قاد الفريق بكر صدقي أول انقلاب عسكري في تاريخ العراق والمنطقة العربية؛ ليطيح بحكومة ياسين الهاشمي، ودشن الانقلاب حالةً من عدم الاستقرار السياسي، وبدأ العسكر التدخل الفعلي في الحياة السياسية.
لم يأت انقلاب صدقي من فراغ؛ إذ إن الفترة التي أعقبت وفاة الملك فيصل الأول عام 1933 وتولي ابنه الملك غازي الحكم، كانت مشحونة بالخلافات بين الأحزاب والقادة العسكريين المنقسمين بين جهات تؤيد الاستقلال التام عن بريطانيا وأخرى تراعي مصالحها وبين تيارات يسارية وعروبية.
وأشار الوندواي في حديثه للجزيرة نت، إلى أن الملك غازي كان يفتقر إلى "الكاريزما" والقدرة على العمل السياسي الفعّال، وبالتالي لم يكن حاسما في فض الخلاف والنزاع بين الساسة، بمن فيهم العسكر.
أما أستاذ العلوم السياسية في جامعة الموصل الدكتور محمود عزو، فقد أشار إلى أن الطبقة السياسية والعسكرية في العراق التي أعقبت تأسيس المملكة العراقية كانت من نتاج الدولة العثمانية، إلا أنه وبسبب ضعف الملك غازي فإنها وجدت فرصة مواتية للتدخل في شؤون الحكم لمصالحها الشخصية.
وفي حديثه للجزيرة نت، يرى عزو أن جميع السياسيين والعسكريين كانوا بعيدين عن التداول السلمي للسلطة، ورأوا في الملك غازي أقل من أن يأمرهم ويتحكم فيهم، وهم الذين أسسوا الجيش ومؤسسات الدولة، لذلك شهدت تلك الفترة تشكيل العديد من الحكومات التي لم تمكث كثيرا.
ويؤيد هذا الطرح عبد الرزاق الحسني في كتابه "تاريخ العراق السياسي الحديث" (الطبعة السابعة 2008)، حيث يشير إلى أنه ومنذ وفاة الملك فيصل الأول لم تكن الحكومات مستقرة، ففي غضون 3 سنوات بين عامي 1933 و1936 شُكلت في العراق 6 وزارات.
ويضيف أنه ومنذ تولي ياسين الهاشمي الوزارة، كانت الدسائس تحاك في بغداد لإفساد خطة الهاشمي وصحبه، كما أن اثنين من وزرائه كانا يتظاهران بالولاء له، وفي الخفاء يشجعان العناصر المعادية ويؤلبان الرأي العام على الحكومة.
وبالتالي -ووفق الحسني- فإن حكومة الهاشمي المشكلة في مايو/أيار 1935 لم تستمر سوى 18 شهرا، وشهدت 8 ثورات في مختلف مناطق البلاد، وعمدت السلطات حينها إلى استخدام القوة في إخمادها، فضلا عن استعانة حكومة الهاشمي ذاتها بأنصارها من مختلف المناطق العراقية الذين دخلوا العاصمة بغداد بأسلحتهم لتأييد الحكومة.
واجه الهاشمي الكثير من المصاعب من مناوئين له وطامعين في السلطة، وهو ما يشير إليه المؤرخ وأستاذ التاريخ الحديث في جامعة الموصل الدكتور إبراهيم العلاف، حيث إن فترة الثلاثينيات من القرن الماضي كشفت عن ظهور اتجاهين سياسيين داخل الجيش العراقي.
العلاف أوضح،أن الاتجاه الأول كان يدعو إلى أن يكون العراق للعراقيين، وهو ما اتسق مع فكر الأحزاب اليسارية التي كان بكر صدقي من داعميها. أما الثاني فدعا إلى الوحدة العربية، وكان ياسين الهاشمي داعما له.
ويعلق العلاف "انطلاقا من موقعه كقائد للفرقة الثانية في الجيش قاد بكر صدقي مع قائد الفرقة الأولى عبد اللطيف نوري القوات نحو العاصمة بغداد انطلاقا من لواء ديالى بعد قطع خطوط الاتصال، ووصلت القوات إلى مشارف بغداد في السابعة والنصف صباحا، وبعدها بساعة واحدة ألقت 3 طائرات حربية الآلاف من المنشورات المطالبة بإقالة الهاشمي".
ويمضي العلاف في سرد وقائع ذلك اليوم، بالإشارة إلى أن حكمت سليمان (تولى الوزارة بعد الهاشمي) حمل صبيحة الانقلاب كتابا إلى الملك غازي موقعا من بكر صدقي وعبد اللطيف نوري وسلمه إلى رئيس الديوان الملكي رستم حيدر تضمن تهديدا بقصف بغداد إذا لم يوافق الملك على الانقلاب الذي لا يستهدف العائلة المالكة، بل الوزارة فقط.
أما الونداوي فيضيف أن تهديد بكر صدقي للملك وإمهاله 3 ساعات لإقالة الوزارة وما رافقه من قصف القوة الجوية مقر حكومة ياسين الهاشمي في منطقة القشلة ببغداد، دفع الهاشمي إلى تقديم استقالته للملك، الذي لم يتردد بدوره في قبولها، بعد أن أدرك أن صدقي عازم على دخول بغداد بأي ثمن، وبعد أن أقدم على إعدام مؤسس الجيش العراقي ووزير الدفاع جعفر العسكري.
أما المؤرخ إبراهيم العلاف فيرى -من جانبه- أن ثمة عوامل ساعدت على الانقلاب، ومنها شخصية الفريق الركن بكر صدقي العسكرية، ونجاحه في قمع الثورات وتحركات العشائر في منطقة الفرات الأوسط خلال عامي 1933 و1934.
وكشف العلاف عن حادثة مهمة أسهمت -حسب رأيه- في تشجيع الملك غازي على دعم الانقلاب، ففي السادس من يونيو/حزيران 1936 أصدر ياسين الهاشمي المرسوم رقم 75، الذي عرف "بمرسوم العائلة المالكة" لضبط تصرفات العائلة المالكة وتقييد تحركاتها، بعد أن هربت الأميرة عزة (شقيقة الملك غازي) وتزوجت بخادم يوناني، مشيرا إلى أن الملك غازي كان ينظر للسماء صبيحة الانقلاب ينتظر شيئا، فكانت الطائرات الحربية ما ينتظره.
مقتل بكر صدقي
بعد الانقلاب تولى حكمت سليمان الوزارة، ودبت بعدها الخلافات بين حلفاء الانقلاب، وهو ما يعزوه الونداوي إلى الاتهامات التي وُجهت إليه وإلى بكر صدقي أيضا، بسبب تفردهما باتخاذ القرارات والسلطة، لتتحرك بعدها الكتلة القومية في الجيش لتغتال بكر صدقي خلال مروره بالقاعدة الجوية في الموصل في 11 أغسطس/آب 1937؛ ويُقدّم يومها حكمت سليمان استقالته من الحكومة.
ومنذ انقلاب بكر صدقي بدأت سلسلة الانقلابات الدموية في العراق والبلاد العربية، ولا تزال آثارها حاضرة حتى الآن
0 تعليقات