إبراهيم الزبيدي
بعد سبعة عشر عاما كنت فيها أتابع ما يكتبه العراقيون الباقون في الوطن أكتشف يوما بعد يوم أن ما كان من جفاف وخراب في 2003 زاد، وتضاعف، وقل الأمن وقل الماء والغذاء والدواء.
صورة للذكرى
عندما غادرت العراق، قبل ستة وأربعين عاماً، كانت بغداد خضراء، زاهية، آمنة، بسيطة، حميمة، تضج لياليها بالسهرانين الفرحين، وصباحاتُها بالخارجين من منازلهم إلى أماكن عملهم برضا عميق وقناعة هادئة وتفاؤل لا يتوقف عن الجريان في نفوسهم. فيتحلقون حول أباريق الشاي ورائحة المشاوي، أو يتزاحمون على دكاكين الكاهي والقيمر والباقلاء.
لم نكن نعرف السرقة، ولا المخدرات بكل أنواعها، وحين كنا نسمع، في كل عشر سنوات مرّة، بحادثة سطو أو قتل، كان العراقيون جميعهم يتعجبون من ذلك العراقي المنحرف الذي سرق أو قتل أخاه العراقي، وما كان يحصل في الانقلابات العسكرية، وهي قليلة، كان يحدث في أيام معدودة، ثم تعود الحياة العراقية إلى هدوئها وانسيابها الهادئ الرزين، وكأن ما حدث كان غمامة صيف.
لم نكن نعرف هذا التدافع الأناني الخشن في الشوارع، ولم نكن نركب الأرصفة ونحتل الشوارع لنجعلها دكاكين ومعارض. لقد اختفت عبارة “تفضل أغاتي”. كنت إذا أردت أن تدفع لأحد ثمن بضاعة أو خدمة يرفض في البداية ويحلف عليك ويقول لك “خليها علينا هالمرة أغاتي”، وهو أحوج ما يكون إليها.
ودخلت الأجواء العراقية في أول مارس 2003، فرأيت العراق، من الطائرة، أرضاً يابسة غبراء، وأنهاراً هرمة أنهكها النبات الطفيلي الذي نبت في مجاريها، ومنازلَ ألوانها متعبة من لون التراب الأصفر الكئيب، أسواقُها مقفرة من الزبائن والبضائع، الناس متخلّفون عن باقي الشعوب المجاورة أكثر مما توقعت بكثير، لم يعرفوا الهاتف الجوال، ولا الكمبيوتر المحمول، ولا الصحون اللاقطة التي تستقبل الفضائيات، ولا مكائن سحب النقود الآلية المتناثرة في الشوارع والدكاكين في عواصم كثيرة أقربها إلى بغداد عمان ودبي وأبوظبي والكويت، ولا ما يسمى بـ”الكرِدِت كارت” الذي أصبح العالم كله يشتري ويبيع بواسطته بدل الأموال النقدية، ولا السيارات الجديدة، ولا الملابس المبتكرة المتجددة مع كل فصل أو موسم أو موضة، ولا الطعام الصحي الخالي من السكريات والدهون، ولا محلات الرياضة وتنمية العضلات، ولا ساحات الجري وممارسة رياضة المشي أو على الدراجات، ولا السفر إلى الخارج للراحة والاستجمام، ولا الطب الحديث وما يستجد من أجهزته وأدواته وأدويته بالأسابيع والأيام والساعات.
وبعد سبعة عشر عاما كنت فيها أتابع ما يكتبه العراقيون الباقون في الوطن، إما بسبب العجز عن الهروب إلى أقرب دولة خارجية، أو بسبب العشق الرباني الثابت للوطن وأهله، وأكتشف يوما بعد يوم أن ما كان من جفاف وخراب في 2003 زاد، وتضاعف، وقل الأمن وقل الماء والغذاء والدواء، وامتلأت الصدور بالغضب والاشمئزاز.
ترى من فعل كل هذا بأهل العراق العزيز؟
0 تعليقات