محمود الجاف
الكثير من المواقف التي تمرُ في حياتنا ليس لها أي تفسير واحيانا نجد صعوبة بالغة حتى في تصديقها . وعندما نشاهد الافلام او المُسلسلات ونرى فيها الغرابة في طريقة لقاء ابطالها والحب الذي يجمعهم ثم الفراق الذي يعقبه العودة بشكل غير متوقع . نعجب من قدرة الكتّاب والرواة على هذه الامكانية في نسج الصور والمواقف والخيال الواسع ولكننا قد نفاجأ باننا نعيش قصة حقيقية لايمكن لأحد ان يُلملم حُروفها وينسج خيوطها ابداً ومنها ما سأرويه لكم علما ان شخوصها مازالوا احياء وكتبتها بناءاً على رغبتهم من اجل توثيقها .
وجدت صديقي احمد وعلى غير العادة غريب الاطوار فقادني قلقي عليه للاستفسار عما به فقال : لن تصدق ماجرى ؟ وعندما اكدت له اني اثق به واعرف انه صادق بدأ يتحدث ودموعه تسبق كلماته :
قال : في صباي كنت اخرج لأمشي على ضفاف نهر خريسان في محافظة ديالى حتى اصل الى مكان جميل يطل على بستان صغيرة اقف امامها . كنت افعل ذلك يوميا . واحيانا كانت متوسطة البنات المسائية ينتهي دوامها قبل مغادرتي فشاهدت اكثر من مرة من بعيد بنتين تمشيان معا . ولأننا في مدينة يعرف احدنا الاخر لهذا حتى من لم يكن مُلتزما دينيا فهو اما يخشى المشاكل من السلوك المُنحرف او يمنعه الحياء وخشية ان يفسر وقوفي بشكل اخر كنت انسحب بمجرد رؤيتهنَّ . تلك البُستان كانت تأسر روحي ولا ادري ما السرُ في ذلك ؟
وفي يوم من الايام لاحظت ان البنتين اللتين رايتهما قبل حين يتشاجران من خلال الاحاديث واشارات الجسد والغضب واضحا على وجهيهما فعجبت من سلوكهنَّ ولكنني لم افهم فقد صمتوا حال وصولهم بالقرب مني حتى عبروا ثم عادوا الى المُشاجرة والحديث بعصبية . ابتسمت وفي داخلي تساؤلات كثيرة حولهنّ ومنها ما المشكلة ولكني خمنت انها قد تكون بسبب الدراسة او الامتحانات او اشياء اخرى تخص حياة البنات . وبعد مدة رأيتهنَّ مرة اخرى قادمتين من بعيد وهنَّ يتشاجرنَّ مع بعضهنَّ ايضا ولكن هذه المرة كنَّ ينظُرنَّ الي ويتحدثنَّ فأدرت وجهي وهممت بالرحيل خشية ان اقع في موقف محرج خصوصا انني لم اكن افهم ما يجري لكنني فوجئت بإحداهنَّ تقول لي وبحدة وصوت مرتفع . هل تقف من اجلي ام من اجلها ؟
فاجأتني بنظراتها التي كانت خليطا من الحزن والعتب والالم والحب والشوق . ولكني فهمت ماذا تقصد الان فقد اتضحت عندي الصورة فابتسمت وقلت لها : من اجلك ... غادرت وانا اسرع الخطى وسعيد بما جرى رغم غرابة الاحداث . ظننت بعدها انها نزوة لمراهقين ما تلبث ان تنساها ولكني قررت ألا اتواجد في وقت خروجهنَّ بعد الان . وبدأت آتي متأخراً قليلا حيث يُخيِّم الظلام وحينها لاتوجد مدرسة ولابنات . وعندما دخلت امتحان البكلوريا فوجئت بجلوس صديقتها بجواري وكانت هي على الرحلة المقابلة لي والانزعاج باديا عليها ويبدو انها تشعر بغيرة شديدة لأنها طلبت من المُدرسة التي تُراقب ان تنتقل لتجلس بجواري ولكنها رفضت .
ومع هذا نظرت الي وقالت : لاتتحدث معها ابدا وسط حيرة الاساتذة والطلاب والطالبات الذين تصوروا انها من اقاربي فلم نكن حينها نعرف ما الحب ولا تملأ عقولنا الافكار السلبية . لم اكن اكلمها ابدا لكن العيون كانت تتكفل بكل شيء . اكملت الامتحان وخرجت قبلها في اليوم الاول وكذلك في الايام التالية ولكنها سبقتني في امتحان الرياضيات وعند خروجي وجدتها تقف بانتظاري فابتسمت وسلمت عليها وطلبت مني الاسئلة واخذنا نحاول معرفة كيف كانت دقة اجاباتنا . كان مجرد اهتمام وانتظار ونظرات خجولة او كلمات جميلة على ورقة تعطيني اياها او افعل انا بحجة انها سؤالا مهما قد يكون ضمن الاسئلة وهي كذلك . رسالة تختصر كل شيء في بضع كلمات مجرد ( احبك وانا في شوق اليك وعندما تنتهي الامتحانات اريد منك ان تمر من امام البيت كل يوم في الساعة كذا وسأكون بانتظارك في الشباك ) اراها من بعيد وكذلك هي . لكني كنت اقف في طريقها الى المدرسة وعند عودتها منها وكذلك في الصف الرابع والخامس والسادس الادبي الذي اخترناه معا . كان يتخلل ذلك بعض الكلمات والسلام واحيانا كلمة ( احبك ) عندما نمرُ بالقرب من بعضنا بوجود صديقتها التي يبدو انها استسلمت للأمر الواقع حتى تطورت العلاقة الى ان تدعوني الى بيتهم لاقف في الباب واتحدث مع سهير بوجودها . ولحيائنا كنا نتكلم عن الدراسة وما الذي سنفعله والمُستقبل . اقصى ما كنت احلم به ان تكون بجواري في الامتحانات النهائية لكنها للأسف كانت بعيدة في الجسد وكنت انتظرها عند الخروج وامشي خلفها وعندما يكون الطريق خاليا من المارَّة اقول لها بصوت منخفض ( احبك وكُلي شوق اليك ) وكذلك تفعل هي ...
ظهرت النتائج وكنت ولله الحمد من الناجحين وبقيت انتظرها حتى اقبلت من بعيد مع ايمان صديقتها وهي تبكي فتمزق قلبي من الحزن وكانت هذه ضربة قاسية لأحلامنا لأنني فهمت انها فشلت لكنني فوجئت بانها تقولي لي بصوت مرتفع ( نجحت حبيبي ) واذا برجل كان يمشي خلفها يصرخ بها ماذا قلت ؟
آه والف آه انه خالها . لقد تقابلنا وجها لوجه وهي تحدثني مباشرة فما الذي سأقوله ولكني فورا تحدثت مع صديقتها كأنني اتواجد من اجلها ولكنه امسكها من كتفها وقال لها : امضي معي بعد أن سألني من انت ؟ قلت له ابن عم ايمان ولكن الامر قد كُشف ... امسك يدها وذهب بها الى البيت . كان معروفا بعنفه وجهله وتهوره الغير طبيعي . اقتاد معه روحي بعد ان ابتسمت لنا الدنيا . فخيم الهم والالم على نفسي وشعرت بالعجز والحيرة وأسرعت الى عمي وطلبت منه ان يخطبها لي لان والدي متوفي اخبرته بما جرى وحتى لاتكبر المشكلة قرر الذهاب اليهم ليعرفوا ان قصدنا شريف ولا ننوي الاساءة اليهم . وقد كان ذلك عصر اليوم التالي لكنهم لم يوافقوا . كنت لأول مرة ارى وجه الحياة عندما تصيبك لعناتها . ادور حول منزلهم كالمجنون علِّي اشم رائحتها لأطمئن . ولما طلبت من صديقتها زيارتهم منعوها من الدخول لانهم عرفوا انها كانت تساعدها وفهموا القصة ... كنت اريد ان أتأكد انها بخير فقط ...
قدمت اوراقي الى الكلية العسكرية وكان حزني عليها وخوفي على مصيرها دافعا كبيرا لي لتحمل الالم والعذاب والتدريب والذل خصوصا في مرحلة المستجد ( السنة الاولى ) كنت خلالها ارابط امام دارهم كلما عدت الى بيتنا في عطلة نهاية الاسبوع عسى ان اسمع عنها خبرا او اراها . واخيرا قررت ان اقف بعيدا عنهم يوم العيد لأني كنت متأكداً انني ساراها فلابد ان يخرجوا وفعلا حصل . رايتها دون ان تنتبه امها وكانت دموعها تخبرني كم تحبني وتحدثني عن حزنها على فراقي والعذاب الذي عانت منه خلال تلك المدة الطويلة ولم اراها بعد ذلك حتى تخرجي برتبة ملازم في الجيش . ثم التحقت في صنف القوات الخاصة وكانت الحرب مع ايران قد مر عليها ثلاثة اعوام . وعندما بدأت الاقتراب من الموت بل واحسست به في احيان كثيرة قررت ان اتزوجها حتى ولو بالقوة او ادفع دمي ثمنا لذلك خصوصا ان بعض اخواني من الضباط كانوا بجانبي واكدوا انهم على استعداد لإسنادي والوقوف معي . وصلت مدينتي وبصحبتي 6 من زملائي في عجلتين وكان القرار ان اخطفها ليلا في حال عدم موافقة اهلها . طرقت الباب ودخلنا الى غرفة الضيوف فقلت لوالدها واخوتها : سأتكلم بصراحة انا احبها واريدها على سنة الله ورسوله وانتم تعرفون عائلتي واخلاقي وعلاقتي بها منذ صبانا ولن اخرج هذا اليوم حتى تنتهي هذه المعاناة . فقال ابوها : لقد فات الاوان لأنها تزوجت قبل اسبوع وانت من عائلة كريمة وتعرف الاصول ... كانت كلماته رصاصة الرحمة على روحي التي بدأت احس بها تتمزق ولكني تمالكت نفسي وقلت له مُبارك عمي وخرجنا .
اصبحت جسدا يمشي على الارض ولا احب ان ارى احد . كان سلوكي في المعارك جنونيا ظنهُ المُقاتلون شجاعة لكنه كان الرغبة في التخلص من الحياة وهذا العذاب الذي لايفارقني . وفي ليلة راس السنة الميلادية عام 1988 وفي الساعة الثانية عشرة والنصف بالضبط اصبت اصابة بليغة جدا . كانت الدماء تنزف مني بغزارة وبدأت افقد الوعي شيئا فشيئا . احيانا اقترب من العالم الاخر فقد رأيت المقاييس والصور تتغير ثم اعود الى الدنيا وارى دموع رفاقي وقد كلفني ذلك الرقود في المستشفى لأكثر من 7 شهور ... كانت عائلتي قد انتقلت الى بغداد وانتشر بين الناس في مدينتي انني استشهدت ... كنت اموت واعود الى الحياة حتى ان الطبيب كان يمسك بيدي يوما ويبكي فسألته : لماذا تبكي ؟ قال : ( حرام امثالك يموتون ) وازداد بكائه واعتقد ان قدراتي العقلية كانت قد تأثرت لأني سلوكي لم يكن متزنا . كنت احيانا اطلب من الجندي ان يأتي بصحن من الطعام حتى اراه بعيني لانهم لم يكونوا يسمحوا لي به وانا اعيش على المغذي منذ مدة طويلة . واحيانا ادعوا الله وابكي لأني اشعر بخوف شديد فالاقتراب من الموت شيء مرعب . واخيرا كتب الله لي الحياة ولكني تغيرت كثيرا فقد ترسخ ايماني بعد الذي رايته وعدت الى الصلاة وبدأت بحفظ القران وقراءة كتب الحديث والتاريخ وكل ما كان يقع تحت بصري من المخطوطات . ثم تزوجت ورزقت بثلاثة اولاد ...
وبعد الاحتلال الامريكي للعراق وبدأ التهجير انتقلنا الى مدينة اربيل . كنت امشي كل يوم ما يُقارب خمسة كيلو متر لأني رياضي وقد تعود جسدي على ذلك . كنت ارى الكثير من الناس يُهرولون ويمشون كبارا وصغارا نساءا ورجال ولا ادري ما بي لأني كنت احس بوخزات في قلبي لأول مرة فتوقفت . اخذت نفسا عميقا واكملت مسيرتي ولكن غمرني احساسا غريبا وكأن هاتفا يخبرني انني سأدخل في نفق من الحزن والالم الذي لايوصف من جديد . لم اكن افهم هل عادت بي الذاكرة الى ايام المستشفى في الحرب ام سيحصل شيء لأهلي او اخوتي وربما اولادي ام ماذا ؟ كانت التساؤلات تنهال علي وتوقعت كل شيء الا الذي جرى ...
سهير ورجل بجوارها وولد جميل وبنتين من الواضح انها عائلتها وهم امامي وجهاً لوجه فتجمدت في مكانها ولما نظرت اليها مباشرة خارت دموعها وقالت : احمد ؟ فتداركت الموقف وألقيت عليهم التحية وسألت عن احوالهم وقد فهموا اني كنت جار والدتهُم . اولادها احسوا بشيء غريب أصاب امهُم ولكنهُم لم يفهموا ما يجري والخوف من ابيهم كان باديا عليهم فاعتذرت وسلمت عليهم وغادرت ... لم اخرج لأكثر من شهر ولأي سبب واشدُ الالم ان تُعاني دون ان تتكلم ويعرف من حولك ما بك ... ثم قادني قلبي رافضا الاستماع الى عقلي الى نفس المكان الذي رايتهم فيه فوجدتها هناك وقد تبين انها كانت تأتي كل يوم ولديها امل انها ستراني . ودون اية مقدمات قلت لها انا اعلم انك تحبيني وتعرفين جيدا اني احبك ولن اناقش هذا الموضوع مطلقا . لكن حبي لك يدفعني الى حماية حياتك واولادك وتاريخ عائلتك وقيمتك في المجتمع وعليه فأرجوك حافظي على بيتك وكلما اشتقت الي ابتسمي وحولي حياتك الى جنة حقيقية فالحب الايجابي يقودنا الى النجاح وليس الى التدمير ولنترك النهاية الى الله فودعتها .
تلك كانت قصة حقيقية اردت مشاركتكم اياها رغم اخفائي الكثير من تفاصيلها لأنني قررت ان اوثقها واحولها الى رواية قد تحمل اسم الحبيبة يوما من الايام ولهذا اوصيكم : ان الحُب الحقيقي ليس مجرد كلمات نقولها ونمضي . بل سلوك ومواقف مُشرقة تُؤكد ذلك . فهو يعني النجاح والتطور والابداع والاحترام والحفاظ على الاخر وعدم تدمير حياته ومستقبله وليس تطبيق الادوار التي نقرأها في القصص والروايات والانزواء الى الظلمات والانجرار الى عالم الفشل والضياع والسقوط في مُستنقع الرذيلة . احبها . تعني ان عليَّ ان اراها سعيدة مع زوجها وقد حولت بيتها الى جنة حقيقية وان كان قد حرم منها في الدنيا . ارجو الله ان يجمعهم في جنان الخلد حيث الحياة الابدية التي لافراق فيها فهكذا حب يستحق ان يعيش الى الابد ...
0 تعليقات