محمد أبوالفضل
التكنولوجيا والتليفونات المحمولة تحولا إلى رقيب في الانتخابات المصرية ولا تستطيع الحكومة تحمل ضريبة التزوير سياسيا في وقت تلعب فيه مواقع التواصل الاجتماعي دورا أساسيا في إبراز صوت المعارضة.
الانتخابات البرلمانية في مصر هندسة سياسية قبل انطلاقها
تحظى الانتخابات الرئاسية بأهمية كبيرة وسط الناخبين في دول مختلفة، لما يمثله الشخص المنتخب من دور مركزي في الأنظمة الرئاسية، وتحظى البرلمانية باهتمام أقل وتخضع لتوازنات وتقديرات حزبية كثيرة تلعب دورا مهما في تحديد درجة الاهتمام، وفقا لمساحة الحرية السياسية ودرجة الديمقراطية.
في مصر، يبدو ضجيج الانتخابات الرئاسية قليلا أو مفتعلا، لأن نتيجتها معروفة سلفا، وتأتي كتحصيل حاصل، وقد تتحول إلى ما يشبه الاستفتاء على مرشح معين، ووجود مرشحين آخرين لا يعني المنافسة الحقيقية، وهي طقس يفرضه الدستور، اعتاد عليه المصريون منذ عقود طويلة، ما جعل فتورهم ظاهرا.
ورغم كل ما يقال من انطباعات سلبية عن انتخابات مجلس النواب الحالية وعدم تأثير في مسار الحياة السياسية بمصر، لكن هناك اهتماما تاريخيا بها وسط فئات شعبية متعددة، يشعر المراقب بحيويتها في دوائر تجري فيها المنافسة على المقاعد الفردية.
من يقترب من التفاصيل يجد جدية متناهية، تصل أحيانا إلى مستوى المتابعة الدقيقة لأنصار المرشحين، بدءا من تنظيم الدخول للتصويت، وحتى وصول صناديق الاقتراع إلى أماكن الفرز وحراستها خوفا من حدوث تلاعب لصالح مرشح معين.
تمثل عضوية البرلمان وجاهة اجتماعية في هذه المناطق، وتدفعهم إلى الوصول إليها بأي طريقة، ما يرفع من الاستنفار الشعبي، ويمنح الانتخابات طابعا ساخنا تفتقر إليه انتخابات الرئاسة
تظل الأصوات معبأة في صناديق بعد الإعلان عن النتيجة لفترة طويلة، تحسبا لوجود طعون انتخابية من قبل مرشحين، فيلجأ القضاء إليها لإعادة الفرز والتيقن من تطابق ما أعلن مع النتيجة الحقيقية، بما يضفي جدية، ويحجم رغبة من يريدون التزوير.
تعد انتخابات الرئاسة عام 2012، الوحيدة التي شهدت سباقا بين أكثر من مرشح، وتفاعل معها المواطنون بشكل لافت، وحظيت بخصوصية نابعة من الفوران السياسي الذي أعقب ثورة 25 يناير في العام السابق عليها، بصرف النظر عن اسم المرشح الفائز والملابسات الاستثنائية التي أحاطت بإعلان النتيجة.
ينتاب قطاع كبير من الناس إحساس بعدم جدوى التصويت في الانتخابات الرئاسية، فتتراجع نسبة الإقبال، وتخضع زيادتها أو نقصانها للقبول بالمرشح الرئاسي وتوقيت الترشح والأجواء التي تحيط به، ومستوى التعاون الذي يبديه الموظفون في المصالح الحكومية لدعمه بالذهاب فرادى وجماعات للتصويت، وفقا لضوابط بيروقراطية أكثر منها قناعات سياسية.
يهتم المواطنون بانتخابات مجلس النواب بصورة كبيرة، لأن مجلس الشيوخ، أو الشورى سابقا، وهو الغرفة الثانية في البرلمان، لا يمثل ثقلا في الحياة السياسية، ويجدون أصداء لأصواتهم التي توضع بالصندوق في المجلس الأول، فلا تعتمد هذه الانتخابات على البرامج والتوجهات وقوة الحزب في الشارع الذي ينتمي إليه المرشح، بل تخضع لقدرته على تقديم خدمات ومساعدات، وحجم النفوذ الاجتماعي الذي يمتلكه.
تخلت الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة عن الطريقة التقليدية في التزوير، من تصويت للموتى في الدوائر الانتخابية، وملء الكشوف نيابة عن الغائبين، واتجهت إلى هندستها سياسيا قبل انطلاقها، عبر تربيطات حزبية محكمة، واختيار أسماء موالية لها حضور جماهيري، وما إلى ذلك من مقومات تضمن تفوق المؤيدين وتطويق المعارضين، وتجيز هذا وتستبعد ذاك وفقا لآليات قانونية.
تحولت التكنولوجيا والتليفونات المحمولة إلى رقيب، حيث تمثل الصور التي يتم التقاطها داخل وخارج اللجان عنصرا مهما في الحد من تأثير الأجهزة الحكومية على إرادة الناخبين، ولا تستطيع الحكومة تحمل ضريبة التزوير سياسيا في وقت تلعب فيه مواقع التواصل الاجتماعي دورا أساسيا في المعارضة.
أصبحت التدخلات الرسمية في العملية الانتخابية نفسها بعد انطلاقها محدودة، بسبب الإشراف القضائي الكامل، الذي يقلص التزوير، وتركت المسألة لقدرة كل مرشح أو تحالف على الحشد، وهي تعلم أن العالم يشاهد ويرصد من بعيد، والناس تولي تركيزا مع مجلس النواب لدوافع تتعلق بالعرف والعادات والتقاليد، والتأثير الإيجابي الذي تصبغه العضوية على صاحبها، من حصانة برلمانية ونفوذ معنوي ومادي.
ينجذب المواطنون للغرفة الأولى (مجلس النواب) في البرلمان، ويزداد الحشد الجماهيري في المناطق الشعبية، وذات الطبيعة القبلية، ويظهر التعبير عن الإرادة في أجلى صوره، بما يعكس مستوى حضور كل مرشح في الدائرة التي يتنافس على خطف مقعدها من دون تدخلات أمنية أو سياسية مباشرة.
يعي الناس في هذه المناطق القيمة التي تنطوي عليها أصواتهم، وتجدهم أكثر إقبالا من المناطق الحضرية، التي تزداد المنافسة فيها ويزداد الإحجام عنها أيضا، إلا إذا كان المرشح بذل جهدا كبيرا على مدار سنوات لتكريس شعبية نادرة، تدفع محبيه إلى عدم التفريط في تأييده، وتحمّل المعاناة لضمان نجاحه.
يعلم سكان محافظات جنوب مصر، المعروفة بالصعيد، أهمية انتخابات مجلس النواب، حيث تدخل المنافسة حيز الصراع، ويتحدد نفوذ القبيلة بما لديها من نواب في البرلمان، وهناك لعبة لتقاسم العضوية بين بعض القبائل، بحيث يترك المقعد مرة لقبيلة والمرة التالية لأخرى، ويسهم التراضي في خفض مستوى العنف، لكنه يثير ضغائن قبائل صغيرة، من الممكن أن يحسم انحيازها لأحد المرشحين الكفة لصالحه.
تمثل عضوية البرلمان وجاهة اجتماعية في هذه المناطق، وتدفعهم إلى الوصول إليها بأي طريقة، ما يرفع من الاستنفار الشعبي، ويمنح الانتخابات طابعا ساخنا تفتقر إليه انتخابات الرئاسة، التي لا تعنيها الخلافات القبلية أو التباينات السياسية، فلها نواميس مغايرة، وضوابط يصعب الخروج عنها.
في مصر، يبدو ضجيج الانتخابات الرئاسية قليلا أو مفتعلا، لأن نتيجتها معروفة سلفا، وتأتي كتحصيل حاصل، وقد تتحول إلى ما يشبه الاستفتاء على مرشح معين
قد تأخذ المنافسة شكل صراع بين البعض، يصل إلى حد الاقتتال على هوية القبيلة، وشهدت قرى في صعيد مصر في زمن سابق قتلى وجرحى بالجملة في انتخابات البرلمان، ربما نجحت أجهزة الأمن في السيطرة على هذا الانفلات الآن، غير أن جذوره لا تزال مستمرة، ما يمثل كابحا لفكرة التزوير، ودافعا لمزيد من الإقبال.
حاولت جماعة الإخوان اختراق المنظومة القبلية في مصر، لأن التصويت فيها ينطلق من ثوابت اجتماعية أكثر منها مادية أو سياسية أو عقائدية، ولذلك يظل هامش التأثير عن طريق الرشاوى أقل في صعيد مصر من غيرها.
تلجأ الأحزاب الطموحة إلى اختيار المرشحين في هذه المناطق على أساس قبلي، وظهرت عائلات لها انتماءات حزبية معروفة، خاصة عندما كانت الحياة البرلمانية مزدهرة، ويصعب استمالتها من جانب أحزاب منافسة، وتتمسك بجذورها القبلية.
مع تغير المشهد وضعف الأحزاب السياسية أصبح العنصر الاجتماعي من العوامل الرئيسية في عملية التصويت، ومع دخول الحداثة ومقتضياتها حدث تآكل نسبي وتعدد في المرشحين، لكن يظل الدور العائلي مفصليا في الانتخابات البرلمانية، ما يجعلها أكثر حرارة من نظيرتها الرئاسية، حتى إشعار آخر، يوحي للمواطنين بأن هناك منافسة سياسية حقيقية.
0 تعليقات