سعد الدغمان
حميد سعيد..أبيات تكتمل معانيها عبر الإستفهام
- كرس المبهم في القصيدة ليمنح أبياته أجوبة دالة بمعنى ضمني
- جاء بالوصف ليضمن فهم تساؤلاته التي أوردها أبيات قصيدته
في قصيدته (زيارات الشجر البابلي) يكاد حميد سعيد أن يورد الاستفهام كمفهوم يبني عليه أركان تلك القصيدة التي ملئت أسئلة متداخلة ، بنيت بأسلوب الماضي كصيغة استفهامية وظفها لتشكيل أبياته ليوحي للقارئ بالتداخل الضمني للزمن الذي يشكل عناصر القصيدة ، فجاءت كلماته تحمل إرهاصات المبهم في أول بيت ( أدخلته سلالة العواصف) ، ( ثم أنتسبت اليه)، ومن المبهم يخرج بالواقع الذي يعبر عنه بالإنتساب اليه، فكيف يتسنى لمن يدخل غياهب العاصفة ولايضمن الخروج منها بسلام ،أن ينتسب لما ينتج عنها من واقع.
ثم يعود ليكرس صيغ المبالغة في نصه عبر المضي بحثا
عن ذلك الشجر الذي منحه صفة المكان ( الشجر البابلي) تحديداً دون سواه، ويمضي سعيد ليكرس في عمله الفني الرائع هذا عناصر السرد التي منحها قوة التصوير عبر استخدام مفردات محددة دالة على المكان والزمان والتصور والتخيل والاستفهام وتضمين الذاكرة مكانا في النص، بنى عليها ركن مهم من أركان بناء قصيدته لتخرج الصورة مكتملة وفق التصور الزمني للحدث ( الإستفهام) ليعود ويقفل مدخل تلك القصيدة الرائعة بالإبهام.
كُلَّما زارني الشجرُ البابليُ..
أدخلتُهُ سلالةَ العواصفِ.. ثمَّ انتسبتُ إليهْ
ومضيتُ لأبحث عنهُ..
في كتبٍ.. لم أعدْ أتذكَّرُ أين هي الآنَ..
مُذْ فارقتها عناوينُها
وسأسأل عنهُ بلاداً جفتهُ
وأسألهُ..
عن بلادٍ إذا ما رَحلْنا إليها معاً..
أتراها ستعرفنا؟
وبالتوصيف دخل حميد سعيد مدخله الثاني محملا نصه مزيداً من الصفات والنعوت كدلالة على عمق المعنى ، ومنه جاء بالمبالغة التي حملها أبياته لتضفي رونقاً وألقاً على القصيدة دون أن تثقل معنى ما أراد لأبياته أن تكون وصفية ثرية بما تحمل من معان ترتكز على دلالات لفطية أقرب ما تكون إلى الواقع منها إلى خيالات الشعر وهواجسه ، أو ربما صوره التي تتشكل بعيدا عن في ذهنية القارئ.
أراد سعيد أن يكون أكثر واقعية عبر تضمين الذكرى كهيكل أساسي لبناء القصيدة ، فجاء على إيراد تشبيهات بعينها تحرك شعور القارئ ، وتشكل في مخيلته الصورة الشعرية بمجرد ملامسة حروف حميد سعيد مخيلة القارئ، وعند أكتمال الصورة يكون الفهم قد أكتمل أيضا ، فلا غرابة أن يسجل حميد سعيد ذلك الإبداع عبر حروفه الناطقة بصور شعرية مكتملة تتقافز بين ثنايا أبياته.
خجِلٌ نخلُنا
كانَ ذلكَ يومَ افترقنا ..
وخبَّأَ في خبزنا .. قمراً ونشيداً جديداً
يُذكِّرُنا؟!
أيُذكِّرُنا.. برفيفِ طيورٍ تَمُرُّ بنا
وتجيء بما وعدَ الليلُ قبلَ الرحيلْ؟
أمْ يُذكِّرُنا..
يومَ كنا نُغَنّي لها..
أنْ تَمُرَّ بأحبابنا.. وبقية أصحابنا
وتنقل عنا تحياتنا..
لبيوتٍ رَعتْنا..
وللنهرِ.. كان أخاً طَيِّباً وحيِّياً
يُشارِكُنا فرحاً.. ويُشاركنا الحزنَ..
أينَ هو الآن؟
يوصف حميد سعيد بالذهاب إلى التداخل في كتاباته الشعرية ، وينعت ايضا بالشاعر المتميز كونه يشكل أبياته كلوحة متكاملة المعاني عبر تضمينها ألواناً عدة ، لتخرج بصورة ناضجة تحوي كل عناصر السرد ، وهذه التي تمنح القصيدة سر النجاح إن تم توظيفها بعمل متقن كما عند حميد سعيد.
التداخل الذي يتقنه سعيد ويستخدمه بدقة في عملية بناء قصيدته يوحي للقارئ بأن قصيدة (حميد سعيد) ربما تميل إلى الوصف أكثر مما للواقعية، لكن الحقيقة تشي بمضامين واقعية ابداعية يكرسها حميد ثنايا
أبياته عبر استخدامه المتقن للغة وبدقة متناهية ليصل من خلالها لرسم صوره الشعرية المنجزة بالواقعية.
فلسفة الحياة التي يوظفها الشاعر في أبياته تدل على عمق الثقافة التي هو عليها، ومنها استخدام المكان للوصول للمعنى الضمني لأبياته والذي يوحي بشيء من التصور اللاواقعي على شكل القصيدة العام ، والذي يمنح حميد سعيد أيضا رؤية فلسفية في الشعر قد تختلف عند غيره ، ومنها يسجل إبداعه الدائم ويحتل مكانة مستحقة بجدارة قد تفوق مكانة نظراءه الشعراء من جيله .
كانت شبابيكُ تلكَ البيوتِ
أعطتهُ.. سحرَ عيونٍ تُباغتهُ حين يدنو
أتنتظِرُ الآنَ مَن رحلوا.. أمْ طواها الغيابْ؟
أينَ هو الآن؟
هل ظلَّ حيث أَقمْنا معاً..
أم طواهُ الغيابْ
استطاع حميد سعيد أن يثبت سطوة حروفه وقصائده في الميدان الشعري الذي كان يعج بفطاحلة الشعر الحر واكتظاظ الساحة متأثرة بشعر العمالقة من أمثال السياب والبياتي وغيرهم من اركان الشعر واعمدته، وأن
يحجز مكانته المتميزة وسط جيل الخمسينات الشعري الذي كان من الصعب أختراق صفوفه في بغداد أنذاك، وهو مايسجل براعة المفردة التي يستخدمها حميد سعيد ، ناهيك عن اكتمال الصورة الشعرية التي يضمنها قصائده، ربما أخذ عليه النقاد افراطه في الوجداني ، إلا ان ذلك لايعيب حميد سعيد بل يحسب له كونه تغنى وعلى مدى طويل بالوطن وبالمدينة التي خرج منها ، ومع ذلك فقد كان له السبق وأجاد وبدقة بمضامين شعرية أخرى عديدة سجل الإبداع له فيها، وهنا نقول أن حميد سعيد بما ترك من منجز شعري لحد الآن يعد من الرموز الشعرية المتقنة ، والتي تحمل في طياتها إبداعاً قل أن ينافس في مجمل الساحة الشعرية العربية.
كلما زارني الشجر البابليُ
خَطَّ على الباب أهزوجَةً غامضة
تستظلُ بها آخر القصائد
تبحث عَمّا اختفى في ثنايا الحروفِ
من حكمَةٍ فائضة
تتعلَّمُ منها القراءة
كانوا هناك
أين هم الآن؟
وبعد أن تمكنا إن جاز لنا أن نورد شيئاً من التوصيف لقصيدة من قصائد الرائع المبدع حميد سعيد ، بقي لنا أن نعرف من هو هذا الشاعر الذي يسكن هواجس الشعر وتسكنه الكلمات بإختصار هو حميد سعيد هادي الأمين (1941) شاعر وكاتب عراقي. ولد في الحلّة. مجاز في اللغة العربية وآدابها من جامعة بغداد. عمل في التدريس مدة، ثم انتقل إلى العمل الصحفي في عدد من المدن العربية والأوروبيّة. انتخب رئيسًا لاتحاد الأدباء في العراق، وأميناً عاماً لاتحاد الكتاب العرب لدورتين متتاليتين. صدر له عدة دواوين شعرية منذ 1968 منها شواطئ لم تعرف الدفء، ولغة الأبراج الطينيّة، وقراءة ثامنة، والأغاني الغجريّة، وحرائق الحضور، وبستان عبد الله ،وباتجاه أفق أوسع، و فوضى في غير عنوانها ،وطفولة الماء، وأولئك أصحابي.
صحافي وناقد عراقي
0 تعليقات