امرأة بين عالمين

مشاهدات



صبا مطر


لا تعرف كم مرّة تكرر معها نفس المشهد. كما لم تعد  قادرة على حساب الأيام التي تسحبها باستمرار إلى ذلك المكان والزمان الهائمين في إحدى متاهات عالم لم يتم اكتشافه بعد.

كيف تصل إلى هناك؟ في أي توقيت يفتح لها الليل بوابات الأحلام العملاقة؟ ولماذا هي بالتحديد من يتكرر معها نفس الحلم وفي نفس المكان والتوقيت؟

نفس التفاصيل.. نفس الصرخة المكتومة. تكاد تختنق من الألم. جسدها يسيح مثل رصاص مصهور.. اعصابها مشلولة، مفاصلها تحترق، وجسدها مُفرّغٌ من المحتوى.

ممددة فوق أرض عشبية مُنَّداة. عيناها تنظران إلى أفقٍ يتكون من طبقات حلزونية. لا شيء مما تراه يشبه عالمها الحقيقي. إذ تبدو الصور هنا غارقة بكثافة حمى اللامعقول. الأفق في عالمها الذي تأتي منه كل ليلة يمتد على مساحة مبسوطة ولا نهائية أمام النظر، فكيف له أن يتغير إلي اشكال حلزونية أو دائرية أو مربعة؟

لماذا عليها أن ترى نفس المشاهد كل يوم؟

عاجزة عن أمر ما في كلا الوقتين.. نعم .. هي كذلك..

" يا الهي.. حتى في احلامي المجنونة أبدو عاجزة؟ لماذا لا يتحرك الصوت في هذا الفراغ القاحل؟ لماذا لا تتردد الذبذبات هنا؟

أنا أصرخ.. نعم أنا أفعل ذلك. بكل قوتي؟ أجل بكل قوتي. لا أحد معي يمنعني عن ذلك. لماذا لا يتيح لي هذا العالم الفارغ إمكانية الصراخ كما أشتهي؟

فمي مفتوح وعضلات وجهي مشدودة إلى أبعد حد. 

أصرخ لكن بلا صوت!

أما الرؤى فهي واحدة. أرى بوضوح شديد. عالم غريب جداً، تقف فيه الأشياء على زوايا كثيرة تتجاوز الرقم أربعة بكثير.

تثبت الصور أحياناً أو تسيح على حين غفلة

لا شيء يمكن الاتكاء عليه مطلقاً..

حتى الألم يتكاثف بقوة ويتضاعف إلى معدلات لا أظنها محتملة. ألهذا اصرخ؟

ربما؟"

هي لا تعرف لماذا تأتي يومياً إلى هذا المكان الموحش. ولا تعرف سر التوقيت الليلي ولا سبب تكرار المشاهد ولا قضية انعدام الصوت. كما تجهل سبب تضاعف المها الجسدي وتكاثره لحد الجنون. و الأفظع من ذلك كله هو عدم قدرتها على مقاومة هذا الكّم الهائل من العذابات الصامتة.

هي معتادة فقط على سماع صرخاتها الداخلية. تطلقها في مكان فارغ، تلجأ إليه كلما شعرت بحاجة لذلك...

الكل مشغول.. والكل معتاد على إصدار الأوامر.

حتى وإن تحدثت ضاع صوتها وسط سيل من ضجيج لزج.

وهكذا قررت أن تهب نفسها للإصغاء فقط.

قامت بشراء أذنين كبيرتين بدلاً عن القديمتين، ووضعت في داخلهما لاقطات إضافية ليكون سمعها مضاعفاً. كما زودّتْ رقبتها بدعامة ونابض ممتاز يساعدانها على كثرة الإيماء بالموافقة دون حاجتها لاستخدام كلمة " نعم".

ومن ذلك الوقت حجزت من إحدى أفخر مواقع التسوق الالكترونية ساقين إضافيتين وأربعة ايادي. كل ذلك ركّبته على جسدها النحيل رغم فظاعة الألم.

كانت على وشك التبرع بفهمها وصوتها إلى أقرب بائع للعتيق والمواد المستعملة. لكنها ترددتْ في اللحظة الأخيرة. ابتسمت بمرارة وهي تتراجع عند باب المحل المعبأ بالخردة. ثم تحسست موقع فمها براحة يدها الحقيقية وراحت تربت على صوتها الخافت بنعومة شديدة وهي تقول، " سأحتاجك ذات يوم!"

كان شكلها مضحكاً للغاية وهي تُقدّم ثلاث اقدام للأمام وتدفع الرابعة إلى الخلف بقوة لضمان سرعة السير وقوة الانطلاقة. اياديها الستة تهتز مع كل خطوة وتتدافع من أجل إنجاز مهام فوضوية ومعقدة. أذناها تسمعان بقوة ما يحتاجه العالم منها. وكانت قد عينتْ واحدة من الأيادي الاصطناعية لمهمة تدوين الطلبات. فكرت بأنها قد تحتاج إلى عينين اضافيتين أو ربما أربعة. وراحت ترتب مكاناً لهما في جسدها الميكانيكي الجديد.

" كل شيء لا بد أن يتناسب ويتأقلم مع البيئة".. هكذا أومأت لنفسها وبصوت داخلي غير مسموع على الإطلاق.

" سأضع عينين خلف الرأس لأتمكن من رصد الرؤى على زاوية ٣٦٠ درجة. هذا افضل.

وسأخزن العينين المتبقيتين للطوارئ.. من يدري؟ قد احتاج اليهما حين تنطفئ واحدة أو أكثر بسبب الاشغال الشاقة...

 ما أروع أن لا يحتاج الانسان إلى أحد مع إمكانية زرع أعضاءً إضافية تبقيه على قيد الخدمة"

كانت تسير لمهامها اليومية ودافع ما يحركها بقوة. كل من ينظر إليها يهرب مبتعداً من بشاعة المنظر.

امرأة بأذرع وأرجل وعيون ونوابض ودعامات إضافية. لا يمكن أن تكون امرأة عادية. الوصف الأنسب لها هو آلة ميكانيكية يحركها صوت الضمير!

لم تهتم في حياتها للمنظر، فهي تنظر برضا لجوهر ما تنجزه يومياً من أعمال كثيرة.

كانت خطواتها ترتج على الأرض بقوة، وأصوات الأذرع والنوابض الوصلات المركبة تئن من الصدأ مع كل خطوة. مما يضطرها أحيانا إلى أخذ استراحات قصيرة من أجل تزييت المفاصل كي لا يستشري الصدأ، ثم تبدأ من جديد.

لا شيء تخلعه عنها أثناء النوم.. فهي جاهزة على مدار الساعة.

فقط في الحلم الذي يسرقها كل ليلة وفي نفس الموعد والتوقيت ترى نفسها مجردة من كل شيء اضافي ركّبَته عن طيب خاطر.

جسدها الهزيل يئن من الألم.. النتوءات التي حفرتها الأذرع والسيقان الاصطناعية تنزف حزناً ووجعاً.

يتشكل العالم الصامت أمامها من مكعبات وأشكال هندسية عصية على التفسير. أثير فارغ تبدو الأشياء فيه هائمة كما الأفكار الصعبة.

تصرخ وتصرخ بكل ما تبقى لها من قوة.. لا شيء

باستثناء صوت كلمة مبحوحة سمعتها آخر مرة وهي على حافة اليقظة.

هناك، وعلى حافة نصل قاطع استيقظت آخر مرة. حملتْ بين يديها الوجع والصوت الذي اكتسبته فجأة.

تحسست جسدها بحذر وتأنٍ شديدين. لا أثر للأذرع والسيقان الاصطناعية.. لا أثر للعيون الإضافية.. لا أثر للأذنين العملاقتين أو اللاقطات المُركّبة.. لا أثر لدعامات الرقبة ولا لنوابض الإيماءات المستمرة. حتى النتوءات التي حفرتها على جسدها من أجل تركيب الأعضاء الإضافية، اختفتْ..

تحسست فمها الحقيقي براحة يدها اليمنى.. كانت شفتاها ترتجفان بقوة وتتحرك على نحو مُتعجّل مما أتاح للهواء أن ينبعث من بينهما، ساخناً رطباً محّملاً بكل ما كتمته لسنوات طويلة. رفع الاثيرُ ذلك اللهب الساخن وترجمه إلى كلمات راحت تدور وتدور في الأفق البعيد..

سمِعتْ صوتاً خافتاً يتردد بلطف ووداعة. أرختْ السمع جيداً وأطلقت النظر. شفتاها تتحركان بسرعة كبيرة. ثمّة صوت يكبر ويكبر أمامها. ثمّة ذرات تتكاثر أمام النظر وضباب ينقشع عن الواجهة. كان صوتها يتضخم وكأنه يتردد عِبر مكبرات صوت عملاقة..

انهمرت دموعها الساخنة وراحت أصابعها تداعب الأفق برسم ابتسامة في قلبه البعيد.. هناك كانت أولى كلماتها الكبيرة تتشّكل وتتضاعف وتكبر ودموعها تغسل بهمّة آثار الحلم وكل رداءة الواقع. والعالم صار ينجب بذرة رفضها الأولى من جيبٍ ممتلئ بالعجائب.

إرسال تعليق

0 تعليقات