عدلي صادق
بحكم أن عباس يصحو ويغفو على أوضاع فلسطينية متوترة ولديه جهاز دبلوماسي كسول يتحول من سيء إلى أسوأ فهو لا يدري أن إسرائيل بدأت منذ أشهر هجوما دبلوماسيا في الساحة الأوروبية.
على عباس الإقلاع عن كل تكتيكاته الصغيرة
تمثل الزيارة الخاطفة، التي أداها رون لودر، رئيس المؤتمر اليهودي الأميركي إلى رام الله، السبت 10 أكتوبر، ذروة الضغط الجاري على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، لكي يعود إلى المفاوضات. وكانت نقطة انطلاق رئيس الكونغرس اليهودي، ووجهة عودته بعد مباحثاته مع عباس، عربية صرفة، ترمز إلى أن الزائر يحمل لعباس رسالة أميركية عربية زجرية مشتركة، ليست إسرائيلية أميركية، مثلما سيكون واردا بالطبع، في جوهر مهمته.
وقد رَشح عن جلسة المباحثات، أن عباس أبلغ لودر رفضه العودة إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل على أساس خطة ترامب للسلام المعروفة بـ”صفقة القرن”. في الوقت نفسه، تداول البعض، في الأوساط الفلسطينية المقربة من “المقاطعة” أن رون لودر، حمل رسالة شفوية من الرئيس ترامب إلى رئيس السلطة.
في هذه الإشارة الأخيرة، تتقاطع بعض الاحتمالات، أولها أن إدارة ترامب التي تصارع الآن كل التحديات، لكي تخرج من انتخابات نوفمبر المقبل فائزة، تريد استباق النتائج بفتح ثغرة في الانسداد الذي واجهته محاولات حل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، بأولويات مقلوبة، بعد نحو ثلاث سنوات من التلميح تلو التلميح، بوجود فرصة وخطة مُحكمة لصالح الفلسطينيين والإسرائيليين، من منظورها المنحاز بالطبع.
وبدا واضحا أن رهان إدارة ترامب على اختراقات التطبيع، سواء تلك التي جسدتها اتفاقيتان مع الإمارات والبحرين، أو التي عبرت عنها مناخات نشأت في العالم العربي، لم يصل بالإدارة إلى النتيجة التي سعت إليها. فقد استمد عباس قوته من ضعفه، بل إنه استخدم حتى انفراط مسبحة الاجتماع السياسي للفلسطينيين، من خلال الانقسام وتغييب المؤسسات وتكريس منهجية التفرد، لكي يجعل خطة ترامب فاشلة وتائهة لا تعرف عنوانا غيره، ويستحيل أن تتجسد كتله من فلسطينيين غير ذوي صفة، تتقبلها.
وعلى هذا الأساس نفسه، الذي ساعد عباس على حرمان ترامب من الإدعاء بأنه أنجز شيئا مع الطرف صاحب القضية والعنوان، اشتغلت إدارة ترامب، بمساعدة إسرائيل، على أطراف عربية وأوروبية، لكي تخلخل الموقف الفلسطيني وتنزع عنه آخر ما تبقى له من عناصر المساندة. فبدأت تل أبيب وواشنطن، من النقطة الأضعف، فهاجمت قراراته الخاطئة، كالامتناع عن استلام العائدات الضريبية من إسرائيل، وهي أموال مستحقة للشعب الفلسطيني، وكانت تل أبيب تتعرض للتنديد، في حال احتباس الأموال.
وعندما امتنع عباس نفسه عن استلامها، تردت الأحوال المعيشية للفلسطينيين أكثر فأكثر، لذا كان من غير المنطقي تعليل الامتناع عن استلام الحقوق المالية، بذريعة أن السلطة الفلسطينية قاطعت إسرائيل وتحللت من كل الاتفاقات معها. ولما أضنت القرارات صاحبها، لاسيما وهو الطرف الأصيل المشارك في صنع وضعية التشابك مع إسرائيل في كل شأن من شؤون الحياة، تراجع دون إعلان وعاد “التنسيق” الأمني كاملا بعد أن توقف جزئيا، وأصبحت البعرة تدل على البعير. لكن الرئيس الفلسطيني لم يفكر في البحث عن طريقة أخرى لحصول الفلسطينيين على أموالهم، كأن يتسلمها عن طريق طرف دولي ثالث.
وكان من بين التقاطعات، أن أطرافا عربية معنية أكثر من سواها بالموضوع الفلسطيني ووازنة فيه، اجتمعت على الرغم من خصوماتها، لكي تؤيد ممارسة الضغوط على عباس لإجباره على العودة إلى المفاوضات. وللأسف كان الرجل يعارض الضغوط ويهجو الدعوات إلى التفاوض ويهاجم بقوة اتفاقيات التطبيع، عندما تتصل هذه المسائل بدول ذات علاقات متردية معه، لكنه يلوذ إلى الصمت عندما تتصل بدول يتفاهم معها ويزهو بعلاقاته مع قادتها، ويرضى بالصيغ العامة التي تركز على الحقوق الفلسطينية.
ففي هذا السياق ظل يتجاهل أن الولايات المتحدة، على صلة بالجميع، ولها ترتيباتها السياسية والأمنية مع تركيا وقطر كما مع السعودية وحليفاتها، ولعل هذا ما يفسر اختيار رون لودر، خط رحلته التي تبدأ وتنتهي عربية.
وبحكم أن عباس يصحو ويغفو على أوضاع فلسطينية متوترة وحائرة، ولديه جهاز دبلوماسي كسول ويتحول من سيء إلى أسوأ، فهو لا يدري أن إسرائيل بدأت منذ عدة أشهر هجوما دبلوماسيا في الساحة الأوروبية، وأن وزير خارجيتها الجنرال غابي أشكنازي، افتتح زياراته الخارجية بزيارة برلين، لكي يحضر اجتماعا غير رسمي لمجلس الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، بهدف تعزيز العلاقات مع إسرائيل.
وقد حمل أشكنازي في حقيبته أدوية شفائية لمعالجة آثار الخطاب الفظ، الذي استخدمه نتنياهو في التعرض للاتحاد الأوروبي، فقد كان نتنياهو يحاكي في ذلك حليفه دونالد ترامب، فيزدري الوزراء الأوروبيين بكل عجرفة. لذا جاء تركيز أشكنازي على الساحة الأوروبية بهدف إصلاح أحد أهم مكونات السياسة الخارجية الإسرائيلية.
وسرعان ما ظهرت نتائج الخطة الإسرائيلية لاسترضاء الأوروبيين، إذ بدأت بعض الأقطار بالاعتراض على الموقف غير المنطقي لعباس، بالامتناع عن تسلم أموال شعبه من عوائد الضرائب، وهددت بوقف مساعداتها إن ظل عباس متمسكا بموقفه، بحكم أن لديه مالا لشعبه، والأجدر به أن يتسلمه ويصرفه في الوجوه الصحيحة، قبل أن يشكو ويتوسل المساعدة.
كذلك سرعان ما نشأت لدى الأوروبيين مواقف غير مسبوقة، إذ سُمعت للمرة الأولى تحذيرات مسؤولين أوروبيين، للقيادة الفلسطينية، من تآكل الدعم الدولي لحل الدولتين، بسبب عدم استئناف المفاوضات. بل إن فرنسا تحديدا، التي يتردد عليها عباس، أعلنت بلسان أريك دانون، سفيرها في تل أبيب، أن حل الدولتين قد لا يكون الحل الوحيد المطروح على الطاولة، وقال إن بلاده قد تغير موقفها من حل الدولتين.
وبحكم أن إسرائيل تنشط وتتابع، وأن إدارة ترامب على صلة بكل الأطراف العربية، فقد كان الموقف الذي حمله رون لودر إلى عباس، يجمع مختلف الأطراف للضغط عليه، فمعه كل المتخاصمين في الإقليم سواء أولئك الذين يداهنونه ويستخدمونه أو الذين يجافونه وينصحونه، فضلا عن الأميركيين أيا كان رئيسهم، والألمان والبريطانيين والفرنسيين.
هؤلاء جميعا يحملون وجهة نظر تقول إن وقف تنفيذ الضم، يعني أن خطة ترامب معلقة، وعليه فإن استئناف المفاوضات خيار حتمي، ذلك علما بأن هذه وجهة نظر تحايلية يؤخذ فيها الظاهر من أواخر السلوك الإسرائيلي الأحادي الذي ينسف عملية التسوية، ولا يؤخذ المؤكد من قرارات حكومة إسرائيل المتطرفة، كضم القدس والممارسات الاحتلالية اليومية.
في كل الأحوال، وإن كان زائر عباس، رئيس الكونغرس الأميركي اليهودي، قد اتفق أو لم يتفق مع عباس على صيغة وسطى، بين رفض المفاوضات على قاعدة خطة ترامب، واشتراط مفاوضات ترعاها الرباعية الدولية، فإن ما يطالب به الفلسطينيون أولا، هو إقلاع عباس عن كل تكتيكاته الصغيرة، التي تُضعف السلطة وتُضعف عباس نفسه، وأن يذهب إلى جمع أشتات الفلسطينيين واستعادة مؤسساتهم والكف عن مناورات المحاور والخصومات والتحالفات الفلسطينية الكاذبة وما يتفرع عنها.
0 تعليقات