علي الصراف
أي قراءة حصيفة لواقع الاقتصاد التركي وتاريخ أزماته سوف تدل على أنه لا يصلح كرافعة لأي مشاريع سياسية كبرى، والتوسعات السريعة التي جرت فيه كانت تغص بالديون الخارجية وبعوامل الفساد.
قطر تمول أوهام أردوغان ونزعاته التوسعية واستفزازاته
ذهب الشحاذ ليستجدي، فوجد صاحبه مأزوما.
تلك هي قصة الزيارة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى قطر. فهو ذهب إلى الدوحة ليطلب المزيد من المال. ولكن الدوحة التي قدمت له ما لا يقل عن 20 مليار دولار حتى الآن، بالكاد تستطيع أن تسد العجز في ميزان مدفوعاتها. وهو الأمر الذي يجبرها على بيع حصص في استثمارات صندوقها السيادي، وأن تفتح شركاتها الداخلية للاستثمار الخارجي من أجل الحصول على المال.
لا يعني ذلك أن قطر بلد فقير، ولكنه يعني أنها لم تعد تملك الكثير من الخيارات لتمويل احتياجاتها الداخلية، ومنها تكلفة الديون الخارجية التي تزيد عن 50 مليار دولار، وتكلفة منشآت مونديال كأس العالم لكرة القدم المقبل، التي تزيد بمفردها عن 200 مليار دولار، فضلا عن ورطة التكاليف الأخرى المتعلقة بتمويل مرتزقة أردوغان في ليبيا، وتمويل الجماعات المسلحة الأخرى هناك، والإنفاق على جماعات الإخوان المسلمين.
كل هذا إنما يعني شيئا واحدا، هو أنها إذا أرادت أن تعطي أردوغان المزيد، فإنها لا تملك سوى أحد طريقين: إما أن تستدين أكثر، وإما أن تبيع من استثماراتها الخارجية أكثر.
الوجه الآخر للمسألة، هو أن “الاستثمارات” القطرية في جماعات الإرهاب وداعميها، صارت تستنزف الاستثمارات الحقيقية الأخرى، في دلالة واضحة على ضحالة الخيارات وسوء التدبير.
مشروع قطر لمد أنابيب الغاز إلى تركيا، الذي دفعها إلى تمويل جماعات الإرهاب في سوريا، وأدى إلى انحراف مسارات الدعوة السلمية إلى التغيير، انتهى إلى فشل مدو أيضا. حتى لكأنه يقول إن عشرات المليارات التي أنفقت على تسليح وتمويل المنظمات الإرهابية، إنما ألقيت في بالوعة لا قرار لها.
تركيا، من حيث المبدأ، لم تعد لتصلح مركزا لتجارة الغاز مثلما كان يتمنى أردوغان. من ناحية، توشك روسيا على استكمال خط نورد ستريم 2 عبر البلطيق إلى أوروبا. ومن ناحية أخرى، فإن كبار منتجي الغاز في المتوسط أنشأوا ناديهم الخاص بقيادة مصر. أما خط الغاز الأذري “تاناب”، فإنه بالكاد يكفي احتياجات تركيا الداخلية، ويتعثر استكماله، بسبب نزعات التسلح التي فضلت سلطة الرئيس إلهام علييف أن تراهن عليها لاستعادة السيطرة على إقليم ناغورنوكراباخ.
وجود الغاز القطري خارج التوازنات الاستراتيجية الناشئة، يضع قطر على الهامش. والسبب الرئيسي لذلك، هو أن الدوحة وضعت بيضاتها في سلة الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة وجماعات الإرهاب، واختلاق الأزمات، ولم تتصرف كقوة بناء وتعمير حيال مَنْ تحتاج إليهم.
حتى وقعت في حضن رجب طيب أردوغان، الذي صار يتصرف معها كحاكم بأمره، ويبيعها أوهاما ليستحلب منها الأموال.
بطريقة أو أخرى أقنعها بقدرته على استعادة أحلامه الإمبراطورية، وعلى أن تركيا قوة إقليمية قادرة على أن تعيد تنظيم المعادلات الدولية.
لم تكن تركيا قادرة على أن تعيد تنظيم شؤون اقتصادها الذي يقف على حافة الهاوية. ولكن قطر صدقت الأحلام، ولم تلحظ المفارقة بين الادعاء وبين الإمكانيات. فمدت له بعشرة مليارات، ثم أخرى، وزادت عليها بتمويل عملته المنهارة في اتفاق لتبادل العملات، قبل أن تنتهي مغامرة تركيا في المتوسط إلى فشل ذريع منعها من مواصلة عمليات التنقيب عن الغاز هناك. كما انهارت المغامرة في ليبيا، برغم كل التمويلات التي قدمتها قطر. وكان يكفي أن ترسم القاهرة خطا أحمر، وتقدم مبادرة للحل، حتى انفجرت الفقاعة في الهواء، ولم يعد لمرتزقة أردوغان ما يعملونه هناك.
الإنفاق القطري على الخراب، بلغ حدوده في النهاية، وانكشف الإمبراطور العثماني كمجرد شحاذ.
فلم يجد أردوغان ما يبيعه في الدوحة سوى القول إن “وجود قواته في قطر يخدم الأمن والاستقرار في المنطقة”، وكأن تركيا هي سادس القوى العظمى في العالم. وأين؟ وسط زحمة البوارج وحاملات الطائرات.
كان يقصد أن يستجدي بعض المال. ولكنه حصد السخرية. فقواته لا تكفي لكي تحمي نفسها. وهي مثل مشاريعه الإمبراطورية الكبرى: تعيش على الشحاذة، ولم تصمد أمام أي اختبار.
ولكن السؤال الأهم هو: لماذا تشتري قطر أوهام أردوغان وتنفق على أحلامه؟
العيش في عالم من الافتراضات خطير باستمرار، لأنه يعني انفصالا عن الواقع، ولكن العيش في عالم الأيديولوجيات أخطر، لأنه يسعى إلى أن يحشر الواقع في ثقب إبرة.
أي قراءة حصيفة لواقع الاقتصاد التركي وتاريخ أزماته، سوف تدل على أنه لا يصلح كرافعة لأي مشاريع سياسية كبرى.
والتوسعات السريعة التي جرت فيه، كانت تغص بالديون الخارجية حتى زادت على 450 مليار دولار، كما تغص بعوامل الفساد. وهذه وصفة مُثبتة ومُجربة للانهيار السريع أيضا.
تركيا نفسها، حتى وإن ظل حزب العدالة والتنمية الإخواني يهيمن عليها لنحو 18 عاما، إلا أنه لم يستطيع أن يقلبها إلى “جمهورية إخوانية” على غرار جمهورية الخميني في إيران. وهو ما يعني أن مستقبل نظام أردوغان محدود حتى ولو طال.
وحزبه الحاكم يتصدع، وتنفصل عنه شخصيات مؤثرة، في دلالة على تناحر الخيارات الاستراتيجية، وليس السياسية أو الاقتصادية وحدها.
وكأي نظام أيديولوجي، فإنه حالما يرحل، فإن كل بنيانه ينهار، في الداخل والخارج، في آن معا.
وتركيا عضو في الحلف الأطلسي. كانت حليفا من وجهة نظر العهود السابقة. ولكنها تحولت في عهد أردوغان إلى عبء، ومصدر للإزعاج.
ومحاولات انتساب تركيا إلى الاتحاد الأوروبي لم تتعطل فحسب، ولكن تركيا نفسها، لا الآخرين، ظلت تضع العراقيل أمامها.
أردوغان، بالمعيار الشخصي، لم يكن ليبدو أمام نظرائه الأوروبيين كشخص متزن، أو تجدر الثقة به، حتى أثبت ذلك بنفسه عندما عمد إلى أن يتعامل معهم بوسائل التهديد والابتزاز.
وكلما اشتدت ضائقته الاقتصادية، كلما أسرع وراء الصغائر، ومنها تدخلاته في الحرب بين أرمينيا وأذربيجان، لكي يحلب شيئا من احتياطات أذربيجان المالية، ويحصل على غاز رخيص، ويبيع السلاح.
لو كانت تركيا شركة في البورصة، ويرأس مجلس إدارتها أردوغان، هل يمكن لأي عاقل، أن يستثمر فيها دولارا واحدا؟
قطر استثمرت بالليرة التركية وحدها أكثر من 20 مليار دولار، ودفعت لتمويل أوهام أردوغان ومرتزقته أكثر من 100 مليار. وحتى عندما اتضح أنها استثمارات خاسرة، جاء الشحاذ ليطلب المزيد من مأزوم، لم يدرك عمق أزمته بعد، ولم يصل إلى قاعها بعد.
ومن مآسي البؤس، أن باعت قطر حصتها في سيارات بورش، لتمول أوهام أردوغان ونزعاته التوسعية واستفزازاته.
كن مستثمرا ذا عقل، وقل أيهما أصح: بورش، أم أردوغان؟
المال يمكن أن يذهب، ولكن إلى أين ذهبت العقول؟
0 تعليقات