د. نزار محمود
كم أنت أيها الزمان صاحب وجوه ووجهات نظر وأحكام كثيرة…
كتبت عشرات الكتب ورويت مئات الأحاديث عنك يا أبا صباح. منها ما خونك، ومنها ما حاول أن ينصفك، ونعود اليوم لنقرأ من أشاد بك وبوطنيتك وعروبتك وبإخلاصك وحكمتك.
لقد كانوا يكنونك بالباشا، وهو تعظيم لقدر ومسؤولية وأعمال، ثم عاد نفر آخر ليهينك ويقتلك ويقطعك إرباً إرباً ويرميه للكلاب. ولم ينته الزمن إلى ذلك فعاد من يترحم عليك ويعتذر عن ما جنته ايادي حاقدين غوغاء.
أين نحن من هذه المعمعة في الحكم على نوري سعيد رئيس وزراء العراق؟!
من المبادىء الأساسية للحكم على إنسان، في أقواله وأفعاله، هو ضرورة الأخذ بالاعتبار ظروف الزمان والمكان إلى جانب ذاتية ذلك الإنسان سواء في خلقه أو وعيه.
وبغض النظر عن اختلافات وجهات النظر في شخص نوري سعيد، سواء الباشا أو العميل، فإن ما يجب أن يهمنا نحن العراقيين هو عبرة التاريخ التي تنير لنا درباً في الحياة، ونحن نعيش اليوم الهرج والمرج بعد أن سالت دماؤنا أنهاراً وهجر أبناؤنا أفواجاً ودمرت دورنا ومزارعنا ومصانعنا ونهبت أموالنا وثرواتنا. ولم نعد نفخر بماض، ولا نفرح بحاضر ولا نستهدي بمستقبل.
ما الذي يشترك في حال الأمس واليوم؟ إنه الجهل واللا وعي والغفلة والانفعال واللا رحمة الانسانية وعدم تحكيم العقل والطمع والجشع وغياب الشعور بالمسؤولية الوطنية.
لقد بدأ نوري سعيد، العراقي الأصل والبغدادي الولادة عام ١٨٨٨، حياته في عائلة سعيد أفندي متوسطة الحال. تعلم في بغداد وإسطنبول وتخرج ضابطاً من الأكاديمية الحربية فيها، ومن ثم ليكمل تخصصه العسكري في الأركان عام ١٩١١. وكان منذ صغره قد استهوته السياسة وعروبة العراق، فانخرط في صفوف الملك فيصل أبان الثورة العربية الكبرى، وشارك في تأسيس أول مجلس للحكومة العراقية عام ١٩٢٢، كما شارك في تأسيس عصبة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، التي كان يطمح أن يكون مقرها في بغداد وأن يكون هو رئيساً لها.
وفي غضون أربعة قرون شارك في تشكيلات أربعة عشر وزارة عراقية.
لقد ساعده على ذلك نبوغه السياسي ودهاؤه في التعامل مع المتغيرات والتناقضات والظروف المختلفة، ناهيك عن أطماع الآخرين ومؤامرات الحساد والأعداء من أهل الديرة والجيران، سيما في أزمان الحروب العالمية وقيام الدولة “الإسرائيلية، ونهوض المارد الشيوعي واكتشاف النفط.
علينا أن نستحضر في الذاكرة كتل الشعب العراقي في قومياته ودياناته ومذاهبه ودرجات تعلمهم وتباين ثقافاتهم.
سرحت في خيالي وأنا أتابع مقابلة مع الناشطة اليسارية “نجية الساعدي” وما قامت به، واعتقالاتها وما روته من مشاهد عن المجتمع العراقي وحكوماته.
تذكرت انقلاب وثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 وما حل بالعائلة المالكة، وأحداث الشواف، وإعدام عبدالكريم قاسم، ومقتل عبدالسلام عارف، وخلع عبدالرحمن عارف وتنحية احمد حسن البكر وشنق صدام حسين! وما آلت اليه أمور العراق منذ الغزو والاحتلال.
إنها مشاهد لا تناسبها إلا ألوان الدم والحداد!!
نجلس اليوم، كبار السن، شيوعيون وقوميون واسلاميون نتذاكر خوالي الأيام… نتسامح أحياناً، ونتعصب أحياناً أخرى… ثم لا زلنا نمضي، للأسف، في زرافات فرادى!
0 تعليقات