الملا سلمان

مشاهدات

 



فائزة محمد علي فدعم


في الصغر كنا نتلهف لأبسط الاشياء ونفرح بها وكان الوالد في كل رأس سنة جديدة يجلب لنا من بغداد (روزنامة) اسمها التقويم العربي الهاشمي الذي كانت اوراقه على عدد ايام العام ويحتوي على التاريخ الهجري والميلادي وكان يسعدنا ان نسحب منه ورقة كل يوم لنقرا ما فيها فقد كانوا يكتبون على ظهرها حكمة او آية قرآنية او موعظة او حديثاً نبوياً او ابياتا من الشعر ... الخ ... أفادتني جدا وتعلمت منها معلومات قيِّمة لا ازال انتفع بها حتى الان . كنت اخذ الورقة لتقرأها جارتنا اليهودية التي لم تكن تعلق عليها وانما تبتسم فقط وتُمازحني ثم اعود الى البيت .

 وفي احدى الليالي اصبت بحُمى شديدة فذهبت بي الوالدة الى بيت حسقيل ( منطقتنا كان اكثر سكانها من اليهود ) فأعطت زوجته الى والدتي (الشيرج ) وهو زيت السمسم ودلكت صدغي ورقبتي به وطلبت مني ان اشرب منه القليل . كانوا يستعملوه كعلاج وفي الطبخ ايضا . وفي صباح اليوم التالي تحسنت صحتي فقالت زوجة حسقيل : اذهبوا لشراء الشيرج من الملا سلمان فأخذنا قنينة صغيرة (شيشة) وقمنا برميها في الشط حسب تعاليم الجارة والعقائد اليهودية لتصل لوحدها الى مدينة البصرة وتحديدا الى ضريح العزير عليه السلام وترسو على الجرف امامه . قال تعالى ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ... الآية ) واصبحت هذه العادة سائدة عند الكثير من العوائل .

وفي احدى المرات ذهبت مع والدي الى الملا سلمان لشراء قنينة اخرى من اجل رميها في الشط وكان اكثر الناس آنذاك على الفطرة وكان بعضهم يقذفونها اما في نهر خريسان او ديالى او في دجلة لسرعة الوصول حسب رايهم فرأيت دمية جميلة (لعابة) كانت على الرف العالي في الدكان يُغطيها التراب لعدم قدرة الناس على شرائها فهمست في اذن والدي اني اريدها وكانت تفتح عينيها وتُغمضها . اشتراها لي بدينار في ذلك الوقت الذي كانت فيه العلوة ( محلات للتجارة ) لها كبنكات اثنين تُؤجر بخمسة وثلاثين دينار في السنة...

طلبي هذا كان باهظ الثمن بالنسبة لوقتنا وكان في واجهة الدكان ايضا بعض الحيوانات في اقفاص متوسطة الحجم ومن ضمنها سحلية (تسمى باالعراقية ارول ) تعلق قلبي بها وعدنا الى البيت . لكنها لم تبارح مخيلتي فقد كنت دائمة التفكير بها وكل يوم ابدا بالبكاء حتى يأخذني والدي او احد افراد العائلة لاتفرج عليه وكان تحته قليلا من الرمل وعندما يكون منتصب القامة كنت اظنه يخاطبني فابتسم . وبعد الحاح ممل اصبحت اذهب كل يوم الى ذلك الدكان لأراه . كان احيانا يتأخر صاحبه في الحضور صباحا فأبقى انتظره حتى يأتي . كنت انتظره في بيت السيد حسن شرّاد ( الان عمارة البياتي ) او امام دكان السيد قاسم الكواز وكانت الكورة التي يصنع بها الادوات الفخارية ملكيتها عائدة لوالدي وتقع بين بستاننا وبين القيادة الان قرب البلدة وكانت تسمى سابقا مديرية الشرطة .اردت شرائه فقال الوالد بالتي هي احسن : اهل السحلية لن يقبلوا لان له ام واب سيبكون عليه . لكن رحلتي اليومية استمرت الى الملا ودكانه ورؤية الحيوان حتى انه كان يقول لوالدي ( الله يساعدك عليها والصبر جميل ) وعند ذهابي اكثر من مرة كنت آخذ معي دُميتي الثمينة ونعبر سوق العرائس وعندما يراها الاطفال يركضون خوفا من عينيها المُتحركتين ويقولون ان فيها مَلَك ( أي جِن ) وفي كل مرة يُذكرني السيد محمد حسين السعدي الاشجي بهذه الحادثة فنضحك . كنا نعبر القنطرة المقابلة للجامع المُؤدية الى سوق بندر ونمشي الى معمل الحلويات الكائن قرب الحاج حسن غائب واشتري الشعر بنات وقد كانت الدمية بيد والشعر بنات باليد الاخرى ونعرج الى العلاوي وكل يوم نفس الاسطوانة المشروخة ولكن في يوم من الايام اخذني والدي ولم ارى الحيوان . كان يعلوا وجه ابي الابتسامة فسألت الملا وقلت له : ( عمي اين الارول )

قال : بدأ يبكي فجاء اهله واخذوه معهم فأصابني حزن شديد لفقده وانقطعت عن الذهاب وعلمت بعد ان كبرت انهم كانوا قد اتفقوا على اخفائه حتى انساه لانهم تعبوا من تكرار ذهابي كل يوم . وعند عودتنا الى البيت كنا نمشي بمحاذاة نهر خريسان الذي كان بدون سياج فرأيت كومة من القصب والحلفة وزبد الماء واشياء راكدة لاتتحرك لم اعرف ما هي وبينها قنينة الزيت التي رميناها منذ مدة وعند وصولي اخبرت امي بانها لم تذهب الى البصرة كما قالوا لحد الان فهي موجودة .

ولم تنبس الوالده ببنت شفة والحليم تكفيه الاشارة .

إرسال تعليق

0 تعليقات