عدلي صادق
أولى الأفكار الصحيحة أن يبحث الطرفان الفلسطينيان عن حل واحد لمأزقين ولكن كيف يستطيعان بينما لم يفكر كل منهما في إدخال أي تعديل على أوهامه وعاداته وسلطاته وما يظنه مغنما؟
مصالحة تراوح مكانها
يُروى على سبيل التندر، أن بعيرين التقيا قبل ربع قرن، على الحدود العراقية السورية، واحد كان هاربا من العراق إلى سوريا، والآخر كان هاربا في الاتجاه المعاكس. ولما صارح الأول الثاني بأنه في صدد الهروب من البطش، أجابه الثاني بالصراحة ذاتها، قائلا له “لقد نجوت وسوف يكون المستقر في دار السلام بغداد، فقد صدر القرار في دمشق، بقصف رأس كل بعير، تكون له ثلاث خصيات وليس خصيتين. عندئذ نظر إليه صاحبه قائلا “لكنك كما أرى بخصيتين اثنتين وليس بثلاث”، أجابه الثاني “صحيح، لكن الجماعة عندنا، يقطعون أولا ثم يحسبون”!
عندما يسبق كلا القطع والوصل الحسبة، تختل الموازين ويدور القاطعون والضحايا في حلقة مفرغة. وحركتا فتح وحماس الفلسطينيتان، قطعتا منذ 13 سنة دون أبسط واجبات النظر إلى واقع فلسطين وشعبها، ودون حسبة، وعندما اضطرتا إلى الوصل لم يخطر في ذهنهما أن الحساب مطلوب لكي يتحقق الوصل.
ففي ضوء التصريحات الفلسطينية الأخيرة، بخصوص المصالحة، يُفهم أن هذه الثمرة المشتهاة، لم تنضج بعد، ليس لأنها لم تأخذ وقتها الطبيعي لكي تنضج، وإنما لكونها في الأصل، مصابة، وتحتاج إلى رقعة في جذع الشجرة.
كانت العرب، في مأثور كلامها تقول “إن أول الخطوات عُثار”. غير أن متعهدي السياسة الفلسطينيين، في كل مرة، يقلبون الأمر، فيجعلون زف البشرى بالانطلاق السريع الذي لا عُثار فيه، قبل أن يبدأ الخطو. كذلك فإنهم يتعجلون الإدانة ويتزيدون فيها قبل أن يتأكدوا من خلو صحيفة أعمالهم من جنس العمل الذي يتزيدون في إدانته. هنا، لن نجعل هذا الاختلال سببا للقول إن هؤلاء كذابون. لكننا على يقين بأنهم يتحاشوْن أكلاف الانطلاق دون عثار، بل إنهم يتهربون من مواجهة حقائق أوضاعهم، ولا يفصحون عن المسكوت عنه في أذهانهم، بعد ثلاثة عشر عاما من الخصومة والتهاجي.
ربما تكون مفيدة الإشارة إلى أن أي طرف فلسطيني من السلطات والفصائل لم يفكر طوال تجربته في أن يحسب قبل أن يخطو. فلا فتح حسبت قبل أن تخطو إلى أوسلو، ولا فعلت ذلك قبل أن تدعو إلى انتخابات يناير 2006 في ظروف التشظي والفوضى وركوب حماس موجة المقاومة ورفع سقف النيران دون أن تذهب إلى أبسط حسبة ميدانية. وسلطة عباس لم تفكر في المآلات، قبل أن تخوض مع الاحتلال في علاقات أمنية كانت أصلا مشروطة بتقدم العملية السلمية. كذلك حماس لم تحسب قبل أن تختطف الحكم، ولم تكن تريد أن تعرف ماذا ستفعل به. ولم تحسب حسبتها من كافة النواحي، عندما قررت، اعتماد منطق الحرب المفتوحة وخطاب الزلازل. فالقيادات الفلسطينية شغوفة ببشائر البدايات، في السياسة وفي الحرب، ولا تفكر في المآلات والنهايات. وعلى أي حال، ليس هو موضوع هذه السطور.
في مسألة المصالحة، بدأ إخواننا بالمقلوب، أي بزف البشرى والوصول إلى بهجة القائمة المشتركة، والتهديد بتخوين من لا يصدق أن الطرفين أصبحا طرفا واحدا. وأعلنا البيان الأول لما يسمى “القيادة الموحدة للمقاومة الشعبية”. أي زُفت البشرى قبل أن تتشكل القيادة، وصدر البيان الأول قبل أن تبدأ المقاومة وقبل التفكير في البيان الثاني، وكل ذلك قبل التأكد من ملاءمة الحسابات الخاصة لدى الطرفين لما جرى الحديث عنه، وقبل التحقق من النفوس وقابلية المعطيات على الأرض وقبل حصر ومعاينة التعارضات في الآراء داخل كل فسطاط. بالنتيجة أصبحنا الآن بصدد كتلتين، واحدة سلطوية بحتة، بلا أيديولوجيا، ولديها منظومة كلام من جنس الطموحات الوطنية، تقاطعت في داخلها التزامات وممارسات أبعدتها عن سياق العمل الوطني المنتج، فتردت السياسة وانتفى بعدها الاجتماعي، وحلّت الكيديات والحساسيات الداخلية، وفي الختام وبالمختصر أصبحت مأزومة، وكأن مشكلتها تنحصر في رسالة يكون جوابها مرسوما رئاسيا.
أما الكتلة الثانية، وهي ذات أيديولوجيا، فإن أول ما نجحت في نزعه عن طبائع وظيفتها، هو الأيدولوجيا نفسها، من حيث كونها بوصلة للسلوك الذي يُلزم “القوي الأمين” بأن يظل قويا على الأعداء، أمينا ونزيها وزاهدا أمام الناس، وليس العكس وعلى النحو الذي يضرب في مقتل، فكرة الحكم بالأيديولوجيا.
بعد ذلك لم يصبح هناك أي تصريف للبضاعة المغشوشة التي اقتناها الواهم قبل أن يحسب، اللهم إلا إذا ارتضى لنفسه إحدى الذميمتين: دولة منفصلة في رقعة غزة، تطوي حلم الاستقلال الوطني المأمول، وتثير سخرية العالمين، أو اندماج في سلطة بائسة تستعيد مسؤوليتها الاسمية عن “جناحيْ الوطن” اللذيْن باتا مهيضين، بعد أن توسعت الصهيونية في الشمالي منهما، وسكنت المآسي الآخر الجنوبي. وبالمختصر أصبحت الكتلة الثانية في مأزق. والأكثر غرابة أن الكتلتين في أوقات التردي الفلسطيني على الأرض كانتا تتشاجران على أدوار وأوهام ومن تأخذ ماذا من كعكة تتخيلانها، أو من يأتي رئيسا ومن لا يأتي.
في المحصلة، نحن أمام مأزقين يُكمل واحدهما الآخر، وقد باتت أولى الأفكار الصحيحة، أن يبحث الطرفان عن حل واحد لمأزقين. ولكن كيف يستطيعان، بينما لم يفكر كل منهما في إدخال أي تعديل على أوهامه وعاداته وسلطاته الأمنية والمالية وما يظنه مغنما؟
اتفاق 2011 التفصيلي، الذي وقعت عليه الفصائل في القاهرة، يبدو كأنه ثمرة حوار مكثف وشامل. وفي الحقيقة هو لم يكن ثمرة حوار، وإنما عملية تجميع لبنود، تشمل المتطلبات الموضوعية لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني. ولأن الحوار الحقيقي لم يجر أصلا، لاسيما وأنه في جوهره يتعلق بكيفية تطبيق البنود، فقد أصبح الاتفاق بالنسبة للطرفين كابوسا. لذا لم يفكر الطرفان في إعادة بناء الثقة وتبديد المخاوف. بل إن ما حدث هو العكس تماما.
الطريق القويم واضح، وله أفكاره ومنهجيته وثقافته، ولكن من ذا الذي يأخذ به؟
ننوه هنا، إلى أن تحميل الآخرين المسؤولية عن الفشل، وتخليق الاتهامات لأطراف أخرى بأنها تحاول إحباط المصالحة، لن يفيدا بالمطلق. فالمفيد هو تحذير الطرفين من أن مجافاة الطريق القويم في المصالحة سيكون معطوفا على مجافاة السلوك القويم في الحكم. ولا بأس من تكرار الحديث، بعدئذ، عن الخطوات الواجب اتخاذها، بدءا من الاعتراف بأن أول الخطو عُثار وليس العكس!
0 تعليقات