إبراهيم الزبيدي
الديمقراطيون الكرد (كما يحلو لهم أن يسموا أحزابهم) تحالفوا مع أكثر الأحزاب الدينية العراقية رجعيةً وطائفية وهم يعلمون بأنها إيرانية التوليد والإرضاع والتنشئة، دون أن يتوقعوا انفكاك عرى ذلك التحالف، عاجلا أم آجلا.
إعادة فتح أبواب التاريخ القديم
لو كانت الأمور كلُها بيد رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، لفصَّل قانون الاقتراض الأخير على هوى الرئيس مسعود البارزاني ومقاس حكومته، ولَما جعله يخرج عن طوره ويشتم نواب الشيعة والسنة ويتهمهم بأنهم طعنوا حلفاءهم الكرد في ظهورهم.
فالمعروف من تاريخ الكاظمي أنه وفيٌّ لا ينسى من أكرمه بالأمس، وأغاثه، وأطعمه من جوع، وآمنه من خوف، وأسكنه فسيح جناته الكردستانية الوارفة. ولكن عينه بصيرة ويده قصيرة أمام إرادة السفير الإيراني والميليشيات الشيعية الحاكمة في بغداد وملحقاتها السنية وغيرها.
فقد اتهم البارزاني النواب الشيعة والسنة في مجلس النواب الاتحادي بأنهم “طعنوا، (مرة أخرى)، ظهر الشعب الكردي”. وليس صعبا على العراقي اللبيب أن يفهم قصده بعبارة (مرة أخرى).
وقال إن “القانون الذي شرّعه مجلس النواب، دون أخذ الشراكة والاتفاقات المبرمة بنظر الاعتبار، نعتبره ورقة سياسية للضغط على الإقليم، ولمعاقبة شعب كردستان، وتجاوزا لمبادئ الشراكة والتوافق، وتضييقا للخناق على شعب كردستان”.
ثم دعا رئاسات الإقليم والبرلمان والحكومة إلى “عقد اجتماع مع ممثلي كردستان في بغداد للوصول إلى قرار مشترك بهذا الشأن”، وطالبهم بـ”اتخاذ قرار يكون على مستوى المسؤولية، يعالج المشاكل، ويحفظ كرامة شعبنا، ويضع حداً للسياسات والتصرفات التي تهدف إلى معاقبة شعب كردستان”.
وهنا يقرر كاكه مسعود البارزاني أن حكومة الإقليم هي الشعب الكردي، وأن سياساتها هي إرادته وقراره. وهو بمنطقه هذا يشابه غيره من الحكام المصابين بداء العظمة الذين يعتبرون أنفسهم هم الشعب والوطن والحكومة والبرلمان، ومن يخالفهم يخالف الله والشعب والوطن، ويُدان بالخيانة العظمى، ويعدم صلبا أو تقطيعا من خلاف.
وبحديثه عن سياسة الطعن في الظهر يفتح الرئيس مسعود على نفسه وعلى حزبه وعلى إخوته في الجبهة الكردستانية أبواب التاريخ القديم، وصولا إلى أيام الغزو الأميركي، وكتابة الدستور، واقتسام الغنيمة مع حلفائه الإسلاميين الغدارين.
فليس من صالحه أبدا أن نستعرض العلاقة بين قيادات الأحزاب الكردية، وليس الشعب الكردي، وبين حلفائها، من أيام شاه إيران وحافظ الأسد، ثم أيام مؤتمرات المعارضة العراقية، بدءًا بمؤتمر فيينا الأميركي وزعيمه الراحل أحمد الجلبي، وصولا إلى يوم الاستفتاء الشهير الذي كسر السد الترابي الذي كان قائما بينه وبين حُلفائه وفرّق بينهم.
وأول ما ينبغي أن نتذكره هنا هو ما صرح به مسرور البارزاني، (ابن مسعود) لصحيفة واشنطن بوست في 6 مايو 2016، وكان رئيسا للمخابرات والأمن، وقبل أن يصبح رئيسا للوزراء، قائلا إن “الأكراد اعتباراً من يوم السادس من مايو 2016 ليسوا مواطنين عراقيين”، مبيناً أن “الحل الوحيد لما يجري هو الانفصال”، لافتا إلى أن “التعايش الإجباري في العراق بلا فائدة، لكونه بلداً قد فشل في كل شيء”.
ليس هذا فقط، بل سيضطر المراقب السياسي العراقي المحايد إلى الغوص بعيدا في التاريخ الذي تعمّد بدماء الجنود والضباط العراقيين في أيام الراحل الزعيم عبدالكريم قاسم الذي أسبغ على الملّا مصطفى وأركان حزبه ما لم يكن متوقعا من التكريم والتبجيل حين أعاده من منفاه الروسي الطويل.
ثم ما تلا ذلك في أعقاب انقلاب البعثيين في العام 1963، من السمن والعسل أيام تحالف البارزاني مع البعثيين لإسقاط عبدالكريم قاسم، ثم الانقلاب عليهم بعد شهور، وإشعال الحرب التي استمرت حتى رحيل عبدالسلام عارف، ثم أخيه عبدالرحمن.
وحين عاد البعثيون مرة أخرى إلى السلطة في العام 1968 تكرر التفاهم والتلاحم بين مسعود البارزاني وغريمه جلال الطالباني من جهة، وبين صدام حسين من جهة أخرى، فازدهرت القبلات، وسخنت الأحضان المتبادلة، إلى أن اشتعلت الحرب العراقية الإيرانية، واصطف القائدان الكرديان، كلاهما، بكل حماس واندفاع، ضد الحليف العراقي الذي لم يهَبْهما ما كانا يطلبانه. ثم جاء الزمن الأميركي الإيراني الأخير ليكشف النقاب عن حقيقة ذلك المطلوب.
وفي أوج نضاله ضد من كان يسميه بـ”الدكتاتور” لم يجد كاكه مسعود غضاضة في الاستنجاد بذلك “الدكتاتور” نفسه ضد مُواطنه جلال الطالباني المنشق عن حزب والده الملا مصطفى حين أوشك، بإيعاز وبدعمٍ من حليفه النظام الإيراني، أن يُطبق على أربيل، ويرسل غريمه البارزاني إلى القبر أو إلى المنافي التي لا ترحم.
ثم سقط النظام الذي أسماه معارضوه الكرد والعراقيون الإيرانيون بنظام الطائفية والمعتقلات والمنافي والمقابر الجماعية، وعاد رفاقنا المعارضون من مقاهي طهران ودمشق وعمّان وواشنطن ولندن ليصبح العراق مضرب أمثال الكرة الأرضية في الحرية والديمقراطية والنزاهة والوطنية والإعمار والازدهار وإنكار الذات ودفن التعصب الطائفي والقومي والديني.
لقد تحالف الديمقراطيون الكرد، (كما يحلو لهم أن يسموا أحزابهم)، مع أكثر الأحزاب الدينية العراقية رجعيةً وطائفية وهم يعلمون علم اليقين بأنها إيرانية التوليد والإرضاع والتنشئة، دون أن يتوقعوا انفكاك عرى ذلك التحالف، عاجلا أم آجلا.
وها قد تحقق ذلك الانفكاك حين انتهى زمن انبطاح حكام المنطقة الخضراء أمام مطالب الحليف الكردي التي لا تنتهي ولا تحتمل.
والسؤال المهم، أخيرا، هل يستطيع أحد من قادة الأحزاب الحاكمة في كردستان، اليوم، أن يقرر خلع حلفائه الذين طعنوه في ظهره، ثم يعتمد على نفسه، وعلى موارده ويعلن الاستقلال؟ أشك في ذلك.
0 تعليقات