مرح البقاعي
بتعيين القاضية باريت يكون الجمهوريون قد عزّزوا مجدّداً فرص نجاح مرشحهم الرئيس الحالي لدورة رئاسية جديدة في حال حدثت أيّ مفاجآت انتخابية اضطرت أحد المرشحين للجوء إلى المحكمة العليا.
ذروة التجاذب
حدث ما كان متوقعاً وموضوعياً في تمديد عدّ الأصوات الانتخابية في انتخابات الرئاسة الأميركية التي من المتعارف أن يتمّ الإعلان عن نتائجها في اليوم الرسمي للانتخابات الموافق للثالث من نوفمبر كل أربعة أعوام. إلا أن العام 2020 كان خارج السياق تماماً بسبب لجوء الملايين من الأميركيين، الذين تجاوز عددهم الخمسين مليون ناخب، إلى التصويت عن طريق البريد الرسمي وقبيل موعد الانتخابات بأيام اتقاء لانتشار فايروس كورونا.
كان البادئ بالخروج ومخاطبة مناصريه أمس حال أخذت الكفّة ترجح لصالح خصمه، هو المرشح الديمقراطي جو بايدن. استبق الأخير إعلان نتائج الولايات السبعة المتأرجحة (نورث كارولاينا، ويسكنسن، جورجيا، بينسيلفانيا، أريزونا، نيفادا، وميشيغان) التي بدأت نتائجها الأولية تميل نحو كفّة الجمهوريين وتصطبغ باللون الأحمر، مخاطباً مناصريه في مرآب للسيارات من مقر إقامته في مدينة ديلاور، ليخبرهم أنه مرتاح للنتائج الأولية وأن عليهم الصبر وأنه على طريق الفوز بعد الانتهاء من عدّ كل بطاقة انتخابية وكل صوت أميركي حيث لا صوت سيُهمل أبداً. وختم بايدن بالتحذير من أن الإعلان عن الفائز لن يكون من طرفه أو طرف منافسه ترامب، بل من طرف الشعب.
أما الرئيس ترامب الذي كان يولم لأصدقائه وكبار مؤيديه من الجمهوريين استعداداً لإعلان النصر، فسارع إلى الرد على خصمه في مؤتمر مصوّر من داخل البيت الأبيض، معرباً عن اعتقاده بحدوث “تزوير” في عدّ الأصوات نظراً لتوقّف العملية بشكل مفاجئ حين بدأت النتائج تميل لمصلحة إعلان فوزه بالرئاسة لفترة أربع سنوات قادمة.
يبدو أن الأمر لن ينتهي بسهولة وبقبول أحد الطرفين بالهزيمة حتى حينما تنتهي الولايات السبع المتأرجحة من حصر أصواتها الانتخابية، وسيتم اللجوء إلى القضاء والمحاكم المختصة لحسم اسم الفائز بالمكتب البيضاوي للعام 2020. ويبدو أن الرئيس ترامب كان يستعدّ لهذا التحدّي القانوني من خلال ترتيب البيت الداخلي للمحكمة العليا والإسراع بتعيين قاضية تنتمي إلى نفس الضفة اليمينية.
فالذي حدث أنه قبيل أسبوع واحد من الموعد الرسمي لانتخابات الرئاسة الأميركية 2020، أقام الرئيس حفلاً مهيباً لأداء قسم القاضية، إيمي باريت، إثر إقرار مجلس الشيوخ تعيينها قاضية في المحكمة الأميركية العليا مدى الحياة، الأمر الذي يعتبر انتصاراً مدوّياً حققه الرئيس ترامب من خلال تعيين مرشحته المحافِظة في المحكمة التي تملك السلطة الأعلى في البلاد لحسم القضايا الكبرى التي تطال مجريات الحياة العامة للشعب الأميركي وركائز دولته.
بتعيين القاضية باريت يكون الجمهوريون قد عزّزوا مجدّداً فرص نجاح مرشحهم، الرئيس الحالي، لدورة رئاسية جديدة في حال حدثت أيّ مفاجآت انتخابية اضطرت أحد المرشحين للجوء إلى المحكمة العليا لتقرير اسم الفائز بسدة المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، وهذا هو السيناريو المتداول الآن على وقع تنبؤات ترامب والخطط البديلة لحملته الانتخابية.
لعلّه من المفيد في هذا السياق أن نتعرّف إلى آليات المحكمة العليا الأميركية وسلطاتها والتي ستكون المرجعية في حالة الاستعصاء الانتخابي التي دخلت فيها الولايات المتحدة الأميركية. فالمحكمة العليا الأميركية هي أعلى هيئة قضائية في الولايات المتحدة، حيث تتشكّل هيئتها من تسعة قضاة، أحدهم رئيس والثمانية أعضاء، وحالياً يرأس المحكمة القاضي، جون روبرتس، الذي عيّنه الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن منذ 14 عاماً، ولمدى الحياة. يتم التعيين في المحكمة العليا بتسمية من الرئيس الأميركي الذي يقدم مرشحه لموقع قاض في المحكمة حال شغور المنصب؛ ولا يخلو المنصب إلا بالوفاة أو الاستقالة أو التقاعد أو الإدانة القضائية النهائية. وهكذا يستمر قضاة المحكمة العليا في مناصبهم مدى الحياة، ولا يمكن للرئيس أو غيره إقالتهم تحت أيّ ظرف من الظروف.
ذروة التجاذب بين الحزبين على تأمين أغلبية الأصوات بين القضاة من محافظين يميلون للجمهوريين، أو ليبراليين يميلون للديمقراطيين، بلغت أشدّها في العام 2000 حين كان للمحكمة العليا القول الفصل في حسم نتيجة الانتخابات الرئاسية التي تنافس عليها في ذلك العام، الرئيس الأسبق جورج بوش الابن الجمهوري مقابل منافسه آل غور الديمقراطي. وقد حكمت المحكمة العليا آنذاك بفوز الرئيس بوش بعد جملة من الطعون رُفعت إليها تشكك في النتائج الانتخابية وآلية عدّ الأصوات في ولاية فلوريدا.
من نافلة القول إنه في الانتخابات الرئاسية للعام 2020 بدا الجمهوريون أقل قلقاً وأكثر حماساً وثقة بمرشحهم مما كانوا عليه في العام 2016، كما أن الرئيس ترامب وسّع من قاعدته الشعبية في سنوات حكمه الأربع مدعوماً بإنجازاته الاقتصادية في مجال خفض نسب البطالة إلى معدّل غير مسبوق منذ ما ينيف على نصف قرن منذ الكساد الكبير في الولايات المتحدة. كما أن فوز الرئيس بأصوات المجمّع الانتخابي في ولاية فلوريدا التي هي ديمقراطية باستمرار، ومعظم ساكنيها من الأقليات وتحديداً من الأصول اللاتينية، قد دحض ما روّجه خصومه بشكل منهجي ومتواصل من اتهامات له بالعنصرية وإهماله لحقوق الأقليات وتحيّزه للعرق الأبيض.
فصل المقال، بل الفصل في اسم الفائز بالبيت الأبيض، سينتظر وقتاً ليس باليسير على المستويين الزمني والسياسي في آن. وسيكون اللجوء إلى القضاء حالة حتمية للوصول إلى النتيجة النهائية التي هي قول المحكمة العليا الناجز في هذا الأمر.
وفي الطريق إلى يوم الحسم الذي يبدو مرصوفاً بشحنات عالية جداً من القلق والترقّب والعصبية في كلا المعسكرين، الجمهوري والديمقراطي، نستطيع أن نقول إن المنتصر الأعظم هو الديمقراطية وضوابطها، تلك التي انشدّت إليها أنفاس الكرة الأرضية لا لأن الولايات المتحدة الأميركية هي أقوى دولة في العالم ورئيسها هو الأقوى بالنتيجة، بل لأن الشفافية وحماية أصوات المواطنين وحقهم في تحديد من سيخدم مصالحهم ومصالح مواطنيهم في بيت الحكم الأميركي، هو حق مقدّس لا يمكن التلاعب به أو تزويره أو التحايل عليه البتة، بل ويحميه في النهاية القانون الذي هو السلطة الأعلى في البلاد.
0 تعليقات