علي السوداني
وهذا فلم جميلٌ مستلٌّ من زمان الأبيض والأسود البديع ، وقد صار مثل سهرة طيبة من تلك الليالي البعيدات ، حيث جهاز التلفزيون ينزرع في حوش الدار ، تسوره العائلة كلها صحبة الشاي والكرزات المكسّرات المقبّلات والتعليقات النقدية للأب الصارم والتي ستشكل تالياً الذائقة الجمعية للأبناء وللبنات ، وللأم العظيمة التي ستحرص على السكوت بنفس حرصها على اعتدال كمية الملح في قدر الباميا العزيز وميقات صينية الشاي المهيّل بالعوافي !!
اسم الفلم هو " كهرمان " وكهرمان راقصة مدهشة بملهى ليلية لطيفة يحطُّ ببطنها كلَّ ليلة نهايتها بناقوط الفجر ، جمعٌ من كائنات آدمية رائعة أحببتهم حتى بائع المخدرات الأرعن رياض القصبجي وذيله حسين اسماعيل !!
أهل الفلم كلهم بكفة والبطلة هدى سلطان بكفّة ، حيث كانت خلطة سماوية مذهلة من غنج ودلع ورقص وشقاوة هند رستم ومارلين مونرو ونادية لطفي في شريط " أبي فوق الشجرة " !!
لم أتعرف على بطل الفلم لكنه يشبه عمر الحريري في مطالع أدواره .
وعندك أيضاً عبد المنعم ابراهيم الذي حافظ على دور الثانوي الأبله الذي يحب الأكل وصناعة القفشات والطرائف التي كانت تضحكنا واليوم نضحك على أنفسنا لأننا كنا نضحك عليها !!
من الثانويين اللذيذين كان عازف العود الصعلوك الذي كان يدلف الى الحانة ويضرب الأوتار لعشرين ثانية فقط ، فيأتي الحراس ويعنّفونه ويشيلونه من فخذيه ويرمونه في الشارع مزفوفاً بقهقهة الزبائن وسيكارة من كبير السقاة !!
استعمل الفلم تقنية الإيحاء الجنسي الصائح ، حيث البطل لم يحصل على قبلة واحدة ساخنة معلنة ، على الرغم من أن ولادة الشريط كانت عند أوشال الخمسينيات المصرية ، وكانت فيها القبل متاحة حتى لعماد حمدي وأحمد مظهر وتوفيق الدقن ، وهذا أمر حيّرني حقاً فكلما اقترب الطالب الإعدادي من فم الراقصة المغنية المشتهاة هدى سلطان ، أمر المخرج الكاميرات بالهبوط الى الأرض لتصوير أثاثها المكون من فستان المعلمة وشالها وحاملة ثدييها الضخمين حتى ربطة عنق الشاب وقندرته المقلوبة على وجهها وزجاجة النبيذ الأحمر الذي استهلك الشريط منه ما يملأ الآن سدَّ النهضة من دون حرب أو زعل !!
لم تستمر حيرتي طويلاً حتى وقعت على العلة المعلولة ، وعرفت أن كاتب القصة هو الممثل المشهور القوي فريد شوقي الذي هو زوج هدى سلطان في الحياة الدنيا ، وأي قبلة حارة تقع على جسد الحكاية ربما كانت ستؤدي الى طلاق بالسبعة !!
ومن المحاسن التي نبشت الذاكرة كان اسم الخمارة وهو بار القط الأحمر ، وثريا النص هذه أعادتني الى قصة نجيب محفوظ " خمارة القط الأسود " وكنت قرأتها قديماً ووجدتها واحدة من أجمل وأعظم وأعجب القصص التي حاولت تقليدها في أول مراهقتي بكتابة القصة ، لكنني فشلت فتركت المسألة التي ربما انولدت بعد حين كثير من الدهر والتجريب والتمزيق !!
كان أحد الندل يشبه عبد الوارث عسر وهذا أمر مريح وحميم ، أما جاسوس المرقص وخادم البنت كهرمان الأمين فأحببته بسبب أدائه ، وأيضاً لأنه كان أحد رماة السهام المهرة الذين عاونوا عبد الله غيث بفلم الرسالة الشهير قبل أن تأكل منى واصف بعض كبده !!
ظلَّ الشريط لطيفاً رحيماً طيباً مبهجاً يشبه نبأ نجاح عالٍ في محنة البكالوريا ، حتى ظهر الممثل العظيم يحيى شاهين ، فتكسّرت الكؤوس وباد النبيذ ومات الغناء والرقص والسهر ووجه زبون سمين كان دوره الشخير فقط ، أما كهرمان الحلوة الطيبة فمرضت مرضاً شديداً وتقطعت أنفاسها وانطفأ وجهها البدر وصار دورها هو صناعة السعال والحسرات حتى لفظت روحها وهي تنصت إلى نحيب الفتى الجريح حامد !!
0 تعليقات