عبد الحميد الصائح
المحركات اقتصادية والصياغات سياسية، هكذا يؤثر أباطرة المال والسوق والإقتصاد في الولايات المتحدة، وهم يتحكمون بقوة في سياستها وميول رؤسائها وأحزابها ومهامها الداخلية وعلاقاتها الخارجية، لكن هذه القوى الخفية التي يصل تاثيرها الى اقصى بقاع العالم، اخطأت خطأ كبيراً حين قدّمت أبرز واشهر وجوهها الى منصة الصياغة السياسية المباشرة - دونالد ترامب - ملك المال الذي لايعرف قيماً ولا حدوداً، رجل المال والأعمال وحصاد الليل من صالات القمار العظمى ومسابقات المصارعة المريعة ودروب ومواخير الإعلام الأصفر والجنس والرأسمالية القذرة ، ونقلته من بين رموز القوى الخفية رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. خطأ فني وتاريخي كبير ، ليس في وضع السياسات فأمريكا هي أمريكا ، رغم أنها تسوّق للعالم على انها سفينة نجاة غير مسؤولة عن تهور حكّامها ، مما يجعل انظار شعوب العالم وسياسييه وانظمته لاسيما في المنطقة العربية تتطلع ببلاهة الى نوع رحيم من الرؤساء بدل الرجيم منهم ، وهم جميعا في النتيجة سواء، الاستراتيجيات واحدة والاليات مختلفة .
ترامب القادم من كوكب الرفاه والمجون ذاك ينظر الى البشر وبضمنه ابناء بلاده من اعلى تلال الغرور والصلف، صلف الذي لم يعتد سوى لغة السوق وملاحقة المزورين والهاربين الذين لايسدّدون ديناً أو يدفعون حساباً، من عالم الصفقات والمؤامرات والقسوة والرشى والمافيات الوسخ ، يجد نفسه في البيت الابيض أمام ملفات معقدة ليست كلها اسمنت وحديد وعاهرات وحرامية وقتلة ، بل هناك اعلام وصحافة وحقوق انسان وعلاقات دولية ودبلوماسية وعهود ومواثيق ورؤيا للمستقبل والعولمة والمناخ والكرامات والأعراق ، وان العالم لايُحكمُ بالمال المجرد بل باستخدامات ناعمة لهذا المال، ولغةٍ مهذبة محفوفة بالغموض والرقي والحذر الذي يفتقده الرجل، وهو ياتي بمنطق السوق ، فامريكا التي عملت منذ تاسيسها على مبدأ ( نحميكم اعطونا فلوسا) ( اعطونا ارضكم نعطيكم فلوسا) لم يقلها سياسي واحد لكن ترمب قالها صريحة بصفاقة،فبدى وكأنّ بلاده شركة أمنية أو وكالة عقار تعقد صفقات القرن أو بندقية للايجار تعمل مقابل المال دون اعتبار اخر، وليست دولة تقود العالم وتتحكم بمفاتيحه وموازناته .
لقد كتبتُ قبل فوز ترمب عام 1916 بان امريكا تجرب هذه المرة مايسمى بالنيوقراطية وهو حكم رجال الأعمال المباشر، وانها بذلك ستضع ارث التقاليد والسبل السياسية المعقدة على الرفوف، وذلك ماحصل فعلا. ورغم أن لغة الشارع التي اتخذها ترامب لها مريدوها في هذا الزمان ، لغة التهديد والسخرية والإبتزاز وقلة الأدب في المحافل الدولية والمؤتمرات الإعلامية والأداء الفض الذي يفسره الكثير من الغوغاء الاميريكان بانه استرخاء واطمئنان و هيمنة أمريكية على مشاعر سكان الارض، لكن اميركا الدولة المركّبة من أعراق وثقافات وأمزجة وتواريخ شعوب متلاقحة شتى، طردت ترامب لتخرجه من التاريخ كاول رئيس منذ خمسة وعشرين عاما لايحظى بولاية ثانية، ومهما كانت الاسباب فانها تداركت ذاتها كي لايفضحها اكثر من ذلك لتلقّنه درسا مختلفا عن حياته المعتادة ، رجل عاش منذ طفولته حياة يحصل فيها على كل مايريده ،لاتوجد قوة تحرمه مما هو فيه، تحرمه اليوم من شيء ثمين تاريخي كان بيده لاربع سنوات فقط!! لتجرده من الحصانة الفعالة ضد أي ملاحقة قضائية جراء ما ارتكبه في العلن وفي السر ،وتعيده الى الشارع الذي كان سيدا عليه بامواله ونسائه ولياليه وقصوره وهو يتأملها منفعلاً خاسراً ، خاسراً للمرة الأولى في حياته.
0 تعليقات