د. باهرة الشيخلي
هذه الكارثة وإن كانت إيران تصنعها في العراق لكنها جزء من مشروع توسع ولاية الفقيه على حساب الدول العربية الذي يقوم على تدمير بناها ومؤسساتها وإحلال تشكيلات بديلة لها.
المدرسة المعتبرة في حضارات العراق أصبحت مستباحة من بعض العشائر
إذا كان صحيحاً القول، قبل سنوات، إن قطاع التعليم في العراق في طريقه إلى الانهيار، فإنه، الآن، ترك الانهيار وراء ظهره وتجاوزه ليمضي في طريق العدم لعوامل عديدة، في مقدمتها تطويقه بالتعليم الأهلي الذي أصبح وجهاً من وجوه التجارة المربحة يمنح الشهادات جزافاً، واختراقه من الحشد الشعبي وميليشياته عن طريق افتتاح “جامعة الحشد الشعبي” تحت اسم “جامعة الشهداء” التي خطط لها أن تضم كليات عسكرية وحربية وثقافية وعلمية خاصة بمنتسبي الحشد الشعبي التي تقبل الطلبة من خريجي السادس الإعدادي أيضاً.
الحشد نسخة أخرى من الحرس الثوري الإيراني من حيث التشكيل والمهمات، الفصل والتمييز بينهما يكمن في أن الحرس الإيراني يدافع عن مصالح بلاده، بصرف النظر عن طبيعة مهماته. أما النسخة العراقية فمهمتها تنحصر في الولاء لجمهورية ولاية الفقيه وتصفية أعدائها واجتثاث معارضيها.. هذا هو الفارق الأساس بين التجربتين.
يخطئ من يظن أن سبب تشكيل الحشد الشعبي هو رد فعل لمواجهة تنظيم داعش الإرهابي، فالحشد فكرة تبدّت مقدماتها البنيوية الأولى منذ قيام المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وكان جناحه العسكري “فيلق بدر” البذرة الأولى التي اختبرتها طهران ميدانياً في حرب الثماني سنوات التي فرضتها إيران على العراق، وتأكدت من ولائه في قضيتين مهمتين: الأولى كانت تعذيبه الأسرى العراقيين وارتكاب جرائم حرب بتصفية مئات الأسرى، أما القضية الثانية فكانت العمليات التخريبية داخل العراق منذ الثمانينات حتى غداة احتلال بغداد.
أما المهمة الكبرى والمستمرة فهي العمل على ترسيخ لاهوت الثورة الإيرانية وتحقيق استراتيجية تصدير الثورة لإقامة ولاية الفقيه الأممية من طهران إلى المغرب ومن أقاصي أفريقيا إلى جاكرتا، وهي المهمة التي يعمل عليها الحشد ويتباهى الميليشياوي “أبوعزرائيل” بأدائها.
الدور الذي يؤديه الحشد، منذ تأسيسه، طبقاً لرأي أستاذ الفلسفة وتاريخها الدكتور عبدالستار الراوي جعل الدولة العراقية كلها في جيبه الصغير، ويمكن العودة إلى قانون معادلة الشهادات الذي أقره البرلمان ليبدو واضحاً أن لعبة الغطاء الأكاديمي جاءت عبر قناة ما يسمى “الدراسات الحوزوية والجامعية”، وقد بدأ الحشد مقدماتها عندما ابتدع جناحاً لنشر التشيع (نسخة إيران) تحت اسم “الحشد التربوي” في المدارس العراقية.
يصف أستاذ جامعي متقاعد ومدير عام سابق في التعليم العالي تأسيس جامعة الحشد الشعبي بأنه دكان لبيع الشهادات تحت أسنة الحراب وأن هذه الجامعة ستكون مكاناً لقبول الفاشلين ومنح الشهادات من دون رقيب، وحسب رأيه، فليس ثمة مسوّغاً علمياً لهذا الاستحداث، والتفسير الوحيد لهذا التأسيس هو أن تكون الجامعة الحشدية مكاناً خطيراً لتعليم الطائفية وإعداد قيادات ميليشياوية يغرق البلد بالتبعية للولي الفقيه، مما يعني أن قطاع التعليم انهدم إلى درجة لا يمكن وصفها لأن أيّ تدريسي لا يستطيع أن يكون نزيهاً في أداء مهمته تحت تهديد السلاح.
والواقع، ليس ثمة مسوغ قانوني لجهة عسكرية بالانضواء تحت جناح التعليم العالي، فالمعاهد والكليات العسكرية منضوية تحت جناح وزارة الدفاع، وإذا كان الغرض هو تكريم منتسبي الحشد فالكليات الأهلية في العراق أصبحت لا تعدّ ولا تحصى، لذلك لا ينصرف الذهن إلا إلى أن استحداث مثل هذه الجامعة ليس سوى تنفيذ لأجندة خارجية لتعليم طائفي وبمناهج غريبة على الإرث الأكاديمي العراقي، وأنه سيسهم بمزيد من التدهور في سمعة الشهادة العراقية على المستويين العربي والدولي، مما يتطلب وقفة جادة من الأكاديميين ورؤساء الجامعات كافة ضد هذا المشروع التخريبي.
إن الفتوى بجهاد كفائي وتأسيس الحشد كان التكليف بقتال داعش، وينتهي دوره حين تستعيد الأجهزة الأمنية والجيش والشرطة تشكيلاتها وتنتهي مهمات الحشد بالقضاء على داعش، لكن ما جرى كان خلاف ذلك تماماً، إذ توسّع الحشد وأصبح منافساً للأجهزة الأمنية وكيان الدولة واشتملت هياكله على مؤسسات تخصصية لتصبح هناك مؤسسة داخل الحشد للتعليم العالي تفتح كليات وجامعات ومدارس.. إنها الدولة العميقة التي تكلف الدولة المليارات ويتقاطع عملها مع الوزارات المختصة، وقد رأى العراقيون كيف جامل أصحاب المناصب من الوزراء الوقفين السني والشيعي ووافقوا على فتح مدارس وجامعات والآن تفتح المئات من الكليات الأهلية لمصلحة الأحزاب والزعامات، وهي استثمارات تدر المليارات على المتنفذين، والنتيجة تخريب شامل للتربية والتعليم، خصوصاً، ونحن في زمن جائحة كوفيد – 19 والتعليم الإلكتروني وسيلة مبتكرة للغش ومنح درجات من دون جهد أو اجتهاد بما في ذلك اختصاصات علمية خطيرة، بخاصة بعد قانون معادلة الشهادات الذي شرّع للتزوير، حسب رأي أحد عمداء الكليات السابقين.
من ضمن ما خططت له سلطة الملالي في طهران إطباقها على مفاصل الحياة كلها في العراق، وهي الآن توجه ذيولها للتوغل في إعادة مأسسة التربية والتعليم في العراق العربي وتغيير هويته الوطنية وتغييبها عبر تغيير جوهر المناهج إلى إنشاء عدد كبير من المراكز البحثية التي لا علاقة لها بما أُسّس من أجله الحشد الشعبي، وتعدّ الخطوات التي ينفذها الحشد الشعبي، كما يرى عميد كلية الإعلام في جامعة بغداد سابقاً الدكتور عبدالرزاق الدليمي تغلغلاً مدروساً وسافراً في صلب حياة النظام، والأهم من ذلك في حياة العراقيين ناهيك عن التدخل في مفاصل مؤسسات المجتمع المدني كلها والحياة العامة للشعب، في محاولات للحفاظ على تماسك القوى التي ربطت نفسها كذيول للنظام الإيراني، لاسيما بعد إعلانها انتهاء المسرحية المفبركة عن خطر الإرهاب الذي كان مسوّغاً لوجود هذه الظاهرة غير السليمة والدخيلة على مجتمعنا.
هذه الكارثة، وإن كانت إيران تصنعها في العراق، لكنها جزء من مشروع توسّع ولاية الفقيه على حساب الدول العربية الذي يقوم على تدمير بناها ومؤسساتها وإحلال تشكيلات بديلة لها يديرها أتباع إيران وترتبط بأجهزة إيران الاستخبارية والسياسية بما يسهل هيمنة طهران وتوسعها، كما يحذّر وزير خارجية عراقي سابق. وبهذا يمكن تفسير تفنّن أتباع إيران الحاكمين في العراق باستحداث البدع التي تضعف الدولة وتحل محلها تشكيلات حزبية ودينية وعسكرية مرتبطة بإيران، وهو ما هيأ لجعل تشكيلات أتباع إيران العسكرية أقوى من أجهزة الدولة العسكرية وما جعلها تستحوذ على الحصة الأكبر من موارد العراق فتأخذ منها قسطاً لتلبية نهمها وطمعها الشخصيين وتوجه الباقي إلى خدمة الاقتصاد الإيراني المنهار.
يلاحظ الكاتب والشاعر العراقي طارق حربي وهو معارض لنظام صدام حسين في كتابه “الطريق إلى الناصرية” أن العراق الذي كان قبلة القاصدين للتزوّد بالعلم والمعرفة تراجع فيه التعليم كثيراً، بعد انهيار الدولة في سنة 2003 وضعف حكومات المحاصصة الطائفية والقومية، حيث أصبحت المدرسة المعتبرة في حضارات العراق مستباحة من بعض العشائر والأفراد، لأن هذا المعلم أو تلك المعلمة لم يُنجحا تلميذاً أو طالباً، فيُكتب على سياج المدرسة العبارة المشؤومة “مطلوب عشائرياً!” مثلما يكتب على صالونات الحلاقة ومحال تسجيل الأغاني والموسيقى ليتم الهجوم عليها لاحقاً، وقد يهان المدير في باحة المدرسة ويضرب المعلم أمام زملائه! راوياً أنه وقعت إحدى أقسى الحالات في محافظة الأنبار، حيث جلد أبٌ لأحد الطلاب، وهو عسكري برتبة ملازم أول، معلم اللغة الإنجليزية في المدرسة لأنه لم يساعد ابنه في الامتحانات!
ختاماً، إن تشكيل “جامعة الشهداء” يهدف إلى منح عناصر الحشد وذويهم فرصة إكمال دراستهم وتأهيلهم، بصفة مناسبة، وإعداد قادة منهم، ولم تقتصر انتقالة “الحشد” إلى المجتمع المدني والمؤسسات على هذه الجامعة فقط، بل برزت، مؤخراً، مراكز بحثية عدّة مرتبطة بالفصائل المسلحة تركز غالبية أفكار ندواتها وعناوينها البحثية على المسألة العقائدية الطائفية لأفكار الحشد، ومحاربة أصحاب الآراء الأخرى، عبر إنجاز الكتب والبحوث، والتركيز على إعداد جيل طائفي من الباحثين والمحللين والسياسيين من عناصر الحشد وذويهم.
والسلام على شهداء العراق.
0 تعليقات