علي الجنابي - بغداد
أرسلَ ليَ "حمودي ضاغطهم" طلبَ صداقةٍ كي تُرفَعَ بيننا الحجب والرُتب واللقب. معلومٌ أن "حمودي" عائِدٌ لتَصغير "محمد"، وذاك خطبٌ مشينٌ يرفضُهُ الجفنُ والهدب، ومفهومٌ أنّ "ضاغطَهم" هو الكائدٌ لتحقيرِ أندادٍ بغضب، أو بحاجبٍ إن قطب.
رَحَّبتُ به، بإنشراحِ صدرٍ وسعةٍ صبب، وبغزيرٍ من ترحابٍ مُنسَكِب. رغم أنّ "حمودي" كائنٌ شقيٌّ غيرُ نقيٍّ ولا تقيّ، وذو جلب، كائدٌ لمن حوله، بل قائدُ لصعاليك الصخب والشغب، لكنّهُ إجتباني صديقاً على ركامِ ماعندهِ من جثامين من الرفاقِ والصحب.
ومادامَ "حمودي" قد إصطفاني لأني من "ذوي النخب"، فهو ضالتي، فلأسكبَنَّ في وجدانهِ مدادَ القراطيسَ والكتب، ولأجعلَنَّ حروفي ضاغطُةً على أذانِهِ، حين إختلائهِ مُعتكِفاً، متصفحاً وخانساً بلا نططٍ ولا وثب، ولأصيِّرَنّهُ كائناً مُسَرَّجاً مُسترخيَ الوَسمِ، يرمي الخطى هوناً على التُرب.
ولرُبَما يجعلُ هو من صروفِهِ ضاغطُةً لعناني، حين إعتلائي الصُحُف مُناكِفاً، متنفِّحاً وكانساً بلا شططٍ ولا طنب، فيُصَيِّرَني كائناً مُهَرِّجاً مُستلقيَ الجسمِ، ك"بهلولَ"بغداد في مقهىً على قهقاتٍ وعلى طرب.
لاريبَ، يا "حمودي"! أنَّ أنفسَنا قد جُبِلَتِ على تفاخرِ بأنها الذروةُ، أو أنها من عليةِ الرتبِ، أوأنها من حليةِ القومِ، أو أنها من "ذوي النُخَبِ". ولعلّكَ هويتَ ونويتَ فقضيتَ على أن تَقتحِمَ ذلكَ المنقَلب. "حمودي سيّد ساداتِ ذوي النُخَبِ". لاحرج ولا نقطة نظام عندي ولا عتب، فالمرء رهينٌ بما له الوهابُ وهب، ثمّ بما سعى نبضُهُ فيما رغب.
حقٌّ لك ذاك، بل تستوي في ذلكَ الحقِّ، نفسٌ مُقامُها في أنينِ خندقٍ بوجومٍ، في ذيلِ ليلٍ حالكٍ إذا وقب، ونفسٌ منامُها في حنينِ فندقٍ بنجومٍ، في نيلِ كيلٍ سالكٍ إذا إقترب. بيدَ أنَّ ذوي "النُخَب" - ياحمودي- ما إنفكوا مستنكفين من ضغطاتِكَ، ويُسَمُّونَك وصحبَكَ من أولي الغوغاءِ ب "ذوي الصَخب"، وقد بنى " ذووالنُخَب" برزخاً يحجرُعنهمُ هوامَ "ذوي الصخب"، رغم أنّكم في سَبَقٍ لنيلِ تصاهرٍ أو تعارفٍ، أو حتى تلاطفٍ مع عينةٍ من أولئك المُدعَونَ "أولوالنُخَب". غيرأنَّ برزخَ "أولي النُخَب" مابرحَ زاجراً لكلِّ إِمْتِزَاجٍ، وهاجراً لكلِّ إِنْدِمَاجٍ، وفاجراً بمن سَوَلَّت له نفسُهُ تناوشَ طرفَ حديثٍ من لسانٍ من ألسنةِ "ذوي النُخَب".
لو نظرتَ "حمودي" من علوّ على "ذوي نُخَب" وعلى "ذوي صخب"، لعلمتَ أن هؤلاءِ من "ذوي نُخَب" يَتَمَطَوْنَ فرحينَ بما يَتَجَمَّلُ قلمُهُمُ وما كَتَب، وأولئك من "ذوي صَخب" يَتَخَطَوْنَ ترحينَ بما يَتَرَمَّلُ سقمُهُمُ وما جَلَب. هؤلاء يَتَغَطَوْنَ بما يَتَزَمَّلُ فهمُهُمُ وما ذَهَب، وأولئكَ يَأطَّوْنَ بما يَتَحَمَّلُ همُّهُمُ وما كسب. هؤلاءِ يَتَصَلّفونَ بما يَتَكَمَّلُ سهمُهُمُ من درهمٍ ومن ذهب، وأولئكَ يَتَزَلَّفونَ بما يَتَقَمَّلُ وهمُهُمُ من جهلٍ ومن كرب. هؤلاءِ تناسوا أنهم كيسٌ من الأنباءِ، تَلَمَّعَت من خلالِ علومِ من قارضٍ لسابقِ حُقب. أنباءٌ سيطمرها الطمى، والفناء بدهورها موصول، وأولئكَ تواسوا أنهم عيسٌ في البيداء، تَجَمَّعَت تحتَ ظلالِ عارضٍ مارقٍ جدب. عيسٌ سيقتلها الظما، والماء على ظهورها محمول. فلا ذو"نخبٍ" دنا فحنا على ذي "صخبٍ"، ولا ذو"صخبٍ" رنا فسنا بذي "نخب". هذان نقيضانِ في عصرنا لا يلتقيان مادامت غاياتُنا هي الكبرياءُ والرُتَب، آياتُنا هي الجفاء والعطب، وراياتُنا هي الخيلاءُ والعجب، كلا الضدّينِ مُصَنَّعانِ من سراب، ومُقَنَّعان في جِراب، ومُمَنَّعان بحراب.
لا سرابَ يا "حمودي" يخدعُني، ولا جِرابَ يردعني، ولا حِراب يمنعني، وما كنتُ ولن أَعْبَأَ لأكونَ مثلَهم من ذوي "نخبٍ"، وما كنتُ ولن أَصْبَأَ لأكونَ مثلَك من ذوي "صخبٍ"، بيد أنّيَ..
مُغرَمٌ ومُبرَمٌ بخبيئاتٍ تحتَ خطيئاتِ "ذوي الصخبِ"، خبايا من حكمةٍ ومن عفويةٍ، بل ومن فطرةٍ نبذت عبادة المسبباتِ والسبب.
مرحباً بك "حمودي ضاغطهم" تحت ضغطِ أنوائيَ الأدبيةِّ الماطرة بصبب. إذاً فتَدَرَّعْ لتنزلَ ميدان ضغطي بلا وجسٍ ولا رهب، وإذ الضغطاتُ بيننا دول، فضغطةٌ لك و ضغطةٌ عليك، والعاقبةُ لمن كسب. وإنَّ الزمانَ بيننا لهوالفصلُ وهو الحكم في ذا المُنقَلَب.
مرحباً بك في رَهَطٍ من ذوي ربطاتِ عنقٍ حمراءَ وأقلامِ، ووَسَطٍ من ذوي نظراتِ تملّقٍ صفراءَ وأوهامِ، ونَمَطٍ من ذوي عبراتِ تخندقٍ عرجاءَ وأحلامِ، وذاكَ هو رهطُ ووسط ونمطُ "ذوي النُخَب".
إلّا مَن رَحِم.
0 تعليقات