د. باهرة الشيخلي
ما يؤخذ على المسؤولين الذين يعترفون بحجم الفساد المتنامي أنهم جميعا تشوبهم تهمة الفساد ولم يحاسبوا المسؤولين الحقيقيين أمام المحاكم، كما أن معظمهم يرفل بالمال الحرام من قوت الشعب العراقي.
الفساد.. وباء أسود أثقل كاهل الدولة
في الوقت الذي يبحث فيه العراقيون عن وصف للفساد الذي ضرب بلادهم منذ سنة 2003 إلى الآن، وأصبح وباء أسود ثقيلا، ووجدوا أن مفردات اللغة العربية كلها عاجزة عن وصفه، جاءت المبادرة السياسية للرئيس العراقي برهم صالح لاستعادة أموال الفساد ومحاسبة المفسدين وتقديمهم إلى العدالة لتثير تهكّمهم وشكوكهم بجديتها.
اتهم بعضهم الرئيس صالح بأنه أول من أسس للفساد في الدولة العراقية، وقال بعضهم الآخر لو كانت مبادرة الرئيس صادقة لذهب، قبل إطلاق مبادرته إلى هيئة النزاهة وصرّح بما كان يملك قبل الاحتلال وما يملكه الآن، إلا أن الجميع اتفق على أن أهدافا انتخابية تقف وراء هذه المبادرة غير ممكنة التحقيق في ظل أحزاب تمتلك ميليشيات بسلاح منفلت لا تسيطر عليه الدولة.
وجاء التشكيك من باحث سياسي كردي هو كفاح محمود، الذي قال “لو صدقت المساعي التي أعلنها الرئيس صالح فإنها تعد نقلة نوعية في إدارة الدولة والخروج من دائرة الفساد إلى دائرة معاداة الفساد وإعلان الحرب عليه”، لكنه، في الوقت نفسه أعرب عن تخوفه من نتائج مثل هذه المشاريع لأن “واقع الحال سيحيل هكذا مشاريع إلى أمنيات صعبة التحقيق يتم استثمارها انتخابيا كدعايات وشعارات لا وجود لها فعليا على الأرض”، عازيا ذلك إلى “اللادولة” وأذرعها الميليشياوية التي تهيمن على معظم موارد البلاد ومفاصلها ومعابرها الحدودية والتجارة السوداء بأشكالها كلّها بالتعاون مع قوى إقليمية مهمة وذات خبرة تلتقي، أيديولوجيا، معها في أيّ مشروع يبيح الاستحواذ على الأموال بأي شكل من الأشكال لخدمة مشروعها العقائدي.
ثم إن “استرداد عائدات الفساد” عملية غير سهلة وقد تكون صعبة التحقيق، فقد أخبرني المستشار المالي السابق ضياء الخيّون في وزارة المالية العراقية أن الأموال التي تحدث عنها الرئيس صالح ذهبت إلى جيوب الفاسدين واستردادها عملية صعبة جدا لأن قوانين الدول فيها سرّية العمل المصرفي صارمة جدا، إلا إذا تعاونت الدول وكسّرت قراراتها وخصوصا سويسرا، وهذا أمر خارج المعقول.
ليست العبرة بإصدار قرارات وقوانين لا تُطبق، وإنما العبرة بالتطبيق فقد درج العراقيون على سماع أحاديث تشبه الحلم ووعود معسولة من جميع المسؤولين الذين تعاقبوا على السلطة ومن دون استثناء، وبعضهم شنّ هجمات كلامية على الفساد وتحدث بعضهم الآخر عن تفشي الفساد وأصدر القوانين وشكل اللجان والهيئات والنتيجة كانت المزيد من الفساد وهدر المليارات، كما قال لي وزير النفط الأسبق الدكتور عصام الجلبي.
ومن الطبيعي أن يواجه إعلان رئاسة الجمهورية عن إرسال مشروع قانون لاسترداد عائدات الفساد إلى مجلس النواب، ردود أفعال برلمانية متباينة. ففي الوقت الذي رحب فيه بعض النواب بالقانون وعدّوه خطوة كبيرة، أكد آخرون أن أي مكافحة للفساد ستبقى حبرا على ورق طالما لم تتوفر الإرادة لضرب رؤوس الفساد والإطاحة بحيتانهم، وسبب هذا التباين أن هناك كتلا سياسية مستفيدة من الفساد، فيما هناك كتل أخرى أقل استفادة، لكن تمرير القانون في البرلمان سيجعل الجميع يخسر لذلك سنرى أن أغلبية النواب ستقف ضده، وستماطل في تمريره حتى عبور الانتخابات، التي يصرح الحراك الشعبي بأنه سيقاطعها، وبعد ذلك سيعود كل شيء إلى وضعه المعتاد، وكأن شيئا لم يكن.
إن الفساد في العراق فساد سياسي بنيوي جرى تأسيسه، منذ لحظة دخول الأحزاب السياسية، وكان مجلس الحكم الانتقالي قد وضع اللبنة الأولى في توزيع المغانم والأنصبة وكانت البداية في اغتصاب مقتنيات الدولة (البنك المركزي) بقيادة ميليشيا أحمد الجلبي المسماة “قوة تحرير العراق”، ثم انقضّ سياسيو 2003 على قصور الدولة والممتلكات الشخصية لمسؤولي الدولة السابقين وتوالى الفساد الذي لا يبرئ العراقيون منه أحدا من رؤساء الحكومات الست ووزرائها والتي تعاقبت على العراق بعد الاحتلال.
ومنذ سنة الموت 2003 اتجهت مافيات الأحزاب وميليشياتها إلى تجريد الدولة من ثرواتها الثابتة والسائلة (النفط والنقود) وتزامن ذلك مع تدمير البلاد والعباد، ولا تمكن استعادة الألف مليار دولار المتأتية من تصدير النفط العراقي إلا باحتجاز رؤساء الدولة ورؤساء الحكومات وإجراء محاكمتهم، ومحاكمة رؤساء أحزاب السلطة وميليشياتهم الذين ابتدعوا المكاتب الاقتصادية لأحزابهم المنتشرة في مؤسسات الدولة، ولهذه القضية حديث آخر.
الحقيقة التي باتت معروفة وأصبحت من المسلمات هي أن الحكومات المتعاقبة منذ 2003، ساعدت وشاركت في جميع عمليات استشراء الفساد في الدولة وأعمالها ومؤسساتها ووزاراتها ومصارفها وعلى نطاق العراق كله، بل إنها شجّعت الفاسدين على الاستمرار في سرقاتهم من دون رادع أو حساب ولا يزال كبار الحيتان مستمرين في عمليات النهب والسلب من قيادات أحزاب وميليشيات ووزراء ونواب ومديرين عامين وضمن القطاع العام والخاص.
انضمّ بعض قادة الميليشيات إلى صفوف أغنى رجال العراق، وأصبحوا مشهورين بشراء مطاعم راقية، ونوادٍ ليلية ومزارع غنية على نهر دجلة، إذ كونت الميليشيات طبقة سياسية جديدة، أخلاقياتها الوحيدة هي الإثراء، وقد أتقنت هذه العصابة، عبر الطوائف، الحيل على جميع المستويات: عمليات التضليل الروتينية لنقاط التفتيش، والاحتيال المصرفي، والاختلاس من الرواتب الحكومية.
وإذا كان الرئيس برهم صالح هو أول رئيس للجمهورية يعترف بحجم الفساد الذي سرق من موارد العراق ما زاد على المليارات من الدولارات، كما يقول سفير العراق الأسبق في لندن الدكتور مظفر الأمين، فإن العبادي وعبدالمهدي والكاظمي سبقوه في الاعتراف بما استنزف من ميزانية العراق وانعكس سلبا بكل وضوح على مستوى معيشة الفرد العراقي ووضع أكثر من 40 في المئة من أبناء العراق تحت خط الفقر وعمل على انكماش بل وزوَال الطبقة الوسطى التي كانت في وضع لا بأس به قبل الاحتلال.
إن ما يؤخذ على المسؤولين الذين يعترفون بحجم الفساد الهائل والمتنامي إلى يومنا هذا، أنهم جميعا تشوبهم تهمة الفساد ولم يحاسبوا المسؤولين الحقيقيين أمام المحاكم، كما أن معظمهم، إن لم يكن جميعهم، يرفل بالمال الحرام من قوت الشعب العراقي.
إن قصص الفساد في العراق من الكثرة بحيث لا تستوعبها مؤلفات، كما أن للفساد تاريخا طويلا من هدر أموال الدولة على مشاريع معطلة وخدمات مفقودة. وكشف برنامج “الحرة تتحرى”، في قناة الحرة الأميركية معلومات ووثائق عن دور أحزاب وميليشيات في استغلال نفوذها داخل السلطة لتحقيق عوائد مالية ضخمة، كما كشف عن تضاعف حجم السرقات في العراق بعد أن تضاعفت سطوة الميليشيات المسلحة المدعومة من إيران، إذ أن الفساد المالي، الذي تديره الأحزاب والميليشيات في العراق، يدرّ عوائد مالية فلكية تجنيها أطراف السلطة منذ سنوات طويلة، على حساب شعب فقير ومؤسسات بدأت بالتصدع والانهيار.
التقرير الذي نشره الصحافي الأميركي روبرت وورث في 29 يوليو 2020 عن الفساد في العراق أثار ضجة كبرى في الأوساط الصحافية ووُصف بـ”غير المسبوق” لجهة “غوصه” في التفاصيل وتطرقه إلى جملة من الملفات الحساسة التي تتعلق بآفة الفساد في العراق، ومدى علاقتها بأطراف وشخصيات ومؤسسات وازنة.
وقال وورث في تقريره ذاك “يمكن الآن اعتبار الفساد قضية حياة أو موت، يجب على العراق أن يختار بين إطعام شعبه أو إثراء اللصوص الحاكمين”.
وتطرق إلى قصة وزير الصحة الدكتور علاء العلوان الذي استقال لصعوبة تكيّفه مع الفساد، إذ اكتشف، وهو تقني قضى عقودا في الخارج، لدى وصوله إلى منصبه، أن وزارته كانت تشتري لقاحات بعقد قيمته 92 مليون دولار، ولكنه وجد طريقة أخرى لشراء اللقاحات نفسها بأقل من 15 مليون دولار. وقال لوورث “بمجرد أن فعلت ذلك، واجهت قدرا كبيرا من المقاومة، حملة شرسة ضدي”.
إن هناك قصصا موجعة للعراقيين يتجسّد فيها الفساد الذي يبحثون عن وصف له في اللغة العربية مثل المئات من المليارات التي أنفقت على الكهرباء، في حين أن العراق مازال غارقا إلى اليوم في الظلام، ومليارات أخرى أنفقت على مشروع تطوير قناة الجيش الذي أهمل قبل أن يكتمل، وأصبح الآن مكبا للنفايات وغيرها الكثير الكثير، لكن الاحتيال كان واضحا في بعض الأحيان. ففي سنة 2017 استورد العراق رسميا ما قيمته 1.66 مليار دولار من الطماطم من إيران، أكثر من ألف مرة من الكمية التي استوردها سنة 2016، وهذه الكمية غير منطقية حتى لو لم يزرع العراق كميات كبيرة من الطماطم.
إن النتائج الإيجابية للفساد في العراق تجنيها إيران، كما يتضح، وما دام نفوذها في العراق باقيا وميليشياتها التي تحمل السلاح المنفلت خارج سيطرة الدولة تشكل اللادولة التي تهدد الدولة فإن أي حديث عن مبادرة لمحاربة الفساد سيكون كوميديا سوداء.
كاتبة عراقية
0 تعليقات