شِعر: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي
-: هَلُمُّوا، أَيها الشُّعَراءُ: مَعْنَى،
يُعِيْدُ المَسْجِدَ الأَقْصَى كأَدْنَى!
فرُبَّ مُطاوِلٍ زُحَلًا مُعانٌ،
ورُبَّ مُحاوِلٍ زَحْلًا مُعَنَّى
-: كُنِ المَعْنَى! تَقُوْلُ بَناتُ شِعْرِي،
وما لِسِواكَ مِنْ مَعْنًى لِيُبْنَى؟!
تُـمِيْطُ الحَزْنَ عَنْ مَسْرَى (سُهَيْلٍ)
وتُنْكِحُهُ (الثُّرَيَّا) قَبْلَ تُمْنَى
«إِذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُوْمٍ»،
فلا تَقْنَعْ بِنَجْمٍ، أو بِأَسْنَى
وسِرْ فَوْقَ المُحالِ، بلا مُحالٍ،
فما لِنِهايةٍ نَسْلٌ لِتُكْنَى
وسِيَّانِ اصطِباحُكَ كَأْسَ نارٍ
وما اصْطَبَحَ النُّواسِيُّ فجُنَّا!
* * *
-: وما الدُّنيا؟
-: «تِراجِدْيا الكُمِدْيا»!
بُطُوْلَتُها: الطَّعِيْنُ.. وسَنَّ طَعْنا!
-: أ هذا «ما جَناهُ أَبٌ على ابْنٍ»؟
-: وَصالَ ابْنٌ على الجانِي بِأَجْنَى!
* * *
تَمُجُّ الأرضَ شُطْآنُ المَنايا،
بِفاضِحِ مَوْجِها، إِنْسًا وجِنَّا
وتَرقُصُ خَيْلُها، سُودًا وبِيضًا،
غِضابا، في مَراقِصها اغتُصِبْنا
أَلا مَن يَلْتَحِمْ؟ والحَرْبُ عِيْدٌ،
بِأَيةِ حالَةٍ عادَ احْتُلِلْنا؟!
ومُنْذُ «الفَتْحِ»، (رُوْبِيْنُ)(1) يُدَلِّي
على الكَتْفَيْنِ رِجْلَيْهِ، وهُنَّا!
إِذا ما النَّمْلَةُ استَوْفَتْ مَداها غَزَا رِيْشُ الهَوَى ظَهْرًا وبَطْنا(2)
وصَارَ لَها بِقَحْطانٍ عِيَالٌ
ومِنْ عَدْنانَ أَبناءٌ تَبَنَّى أُسُوْدُ (شَرىً)، و(عَثَّرَ)، حامِياتٌ
(خِيامَ الرَّبِّ)، إِنْ ذَرٌّ تَجَنَّا!
* * *
متى يُجْدِيْ البُكَاءُ عَلَى بِلادٍ؟
وإِنْ شَهِدَتْ خرائطُها؟! وأَنَّى؟!
خَرِيْطَةَ (بَطْلِمُوْسَ)، عليكِ مِنَّا
دَمٌ يَرْوِيْ المَواطِنَ، إنْ جُهِلْنا
ولكنْ إنْ نَبَا لِلْحَقِّ سَيْفٌ
يَهِفُّ العُمْرَ حَسْراتٍ وأَنَّا
فعَيْنُ الشَّمْسِ تَعْمَى عَنْ يَدَيْها،
إِذا لَمْ تَبْتَقِمْ(3) في الشَّمْسِ عَيْنا!
* * *
كم اضْطَرَمَ العَواصِفُ في فُؤادٍ،
على جَمْرِ الحَنِيْنِ، بَكَى وحَنَّا
تَطُوْلُ صَلاةُ مُستَسْقِيْ اللَّوَاظِي،
ويُصْلِيْ (مالِكٌ) سُقْياهُ لَعْنَا
سَرابا في كُؤوسٍ مِنْ رِمالٍ
شَرِبْنَ العِيْسَ، في الفَلَواتِ، ظَعْنا!
* * *
نَهَضْنا مِنْ ضَرِيْحِ المَوْجِ عُرْيا،
نَضِجُّ إِلَيْكَ، (بُوزَيْدُوْنَ): ...تُبْنا!
كَنَخْلٍ مِنْ غَياهِبِ (بِرْسِفُوْنٍ)،
لِفَجْرِ أَبِيْ المِياهِ، نَصِيْحُ: إنَّا...!
إِلى (دِيْمِيْتَرٍ)، أُمِّ المَهارَى،
نُعِدُّ الخَيْلَ (لابنِ زِيادَ) سُفْنا
لِتُبْحِرَ مِنْ مَواتِ (هَدِيْسَ)، تُحْيِيْ
رَمِيْـمًا، أَرْضَعَتْ سَلْواهُ مَنَّا!(4)
* * *
بِطُولِ شَوارِعِ التَّارِيْخِ نَعْدُو،
مِنَ البَرْدِ الجَحِيْمِ، نَفِرُّ مِنَّا
نَرَى حَدَقَ القُبُوْرِ طُيُوْرَ ماءٍ
ومِنْ صَخْرِ الجِبالِ السُّحْبُ تُجْنَى
يُصَلِّي الكاهِنُ النَّارِيُّ نارًا،
ونَحْنُ صَلاتُنا بِالمَاءِ تُبْنَى!
* * *
-: أُنادِيها؟ أ تَعْرِفُ صَوْتَ طِفْلٍ
يُنادِي أُمَّهُ: يا أُمُّ، عُدْنا؟
-: لِأَصْواتِ الطُّفُولَةِ أَلْفُ أُذْنٍ
بِقَلْبِ الأُمِّ، ما يُطْفِئْنَ أُذْنا
ولو نادَيْتَ ساجِيَةَ اللَّيالِي،
أَجابَ الفَجْرُ، مِدرارًا وهَتْنا
فما لِنُعاسِ غافِيَةٍ جُفُونٌ؛
يُكَحِّلُ لَيْلُها بِالخَيْلِ جَفْنا!
* * *
-: أَلا يا أَيها الأَطفالُ، يَكْفي!
اهْبِطُوا عَن سُلَّمَ الأَصواتِ، شِبْنا!
مَتَى تَأْتِي؟! دُعاؤكُمُ ثُغاءٌ..
كَأَنَّ المَوْتَ ناداها: كَأَنَّا...
* * *
-: أَلا يا نَظْرَةً مِنَّا إِلَينا..
إلى تِلْكَ المَدائنِ.. زِدْتِ غَبْنا
إلى تِلْكَ المَنائرِ كالثَّكَالَى
تُفَتِّشُ جَيْبَ (عِزرائيلَ) عَنَّا!
* * *
-: أ كانتْ أَمْسِ فينا؟ إِذْ سَمِعْنا
أَذانَ الفَجْرِ، صَدَّاحا تَغَنَّى؟
فعَبْرَ شَآمِنا أَسْرَى شَمالًا،
وعَبْرَ جَنُوْبِنا أَجْرَى وأَجْنَى؟
برُغْمِ كُهُوْفِنا، شادَ المَعالِي،
ورُغْمِ خَصاصَةٍ، أَغْنَى وأَقْنَى؟
* * *
أفاعي النَّارِ تَجتاسُ المَوانِي،
تُبِيْدُ شُمُوْسَها إِنْ لم تُبِدْنا
وتَمْتَحِنُ الذُّكُوْرَ بِكُلِّ أُنْثَى، ى
وتَمْتَحِنُ الإِناثَ بِكُلِّ أَزْنَى
لِتَعْرِفَ فارِقَ التَّوْقِيْتِ فِينا،
هِزَبْرَ الغِيْلِ، والرَّشَأَ الأَغَنَّا!
* * *
يَنامُ النَّوْمُ، والأَضواءُ تَسْهُو،
فيَلْتَمِعُ الحَنِيْنُ بِـ(قَيْسِ لُبْنَى)
وتَقْلَقُ في سَماءِ اللهِ شُهْبٌ،
ويَغْفُو ابنُ السَّمَالِقِ مُطْمَئِنَّا!
* * *
أ كانتْ أَمْسِ فينا؟ إِذْ سَمِعْنا
أَذانَ الفَجْرِ، صَدَّاحا مُغَنَّى؟
على عَرْشٍ مِنَ الشِّعْرِ المُصَفَّى
تُناغِي طِفْلَها، تُصْفِيْهِ فَنَّا
تُمَشِّطُ شَعْرَهُ الأَحْوَى بِمُشْطٍ
مِنَ العِطْرِ الأُمُوْمِيِّ المُحَنَّى
تُصَلِّي فَوْقَ رُكْبَتِها الصَّبَايا
لِتَقْبِسَ مِنْ لَـمَى شَفَتَيْهِ عَدْنا
تَقُولُ لَهُ: ستَمْشِي، يا أَمِيْرِي،
على الأَمْواج، غُصْنًا ضَمَّ غُصْنا
فأَدِّ صَلاةَ الاِستِسقاءِ تَنْدَى
قصائدُكَ السَّجِيْنَةُ فِيْكَ دَنَّا
(سَمِيرَامِيْسُ) تَسْبَحُ في القَوافِي
لِتُقْرِئَكَ الغَرامَ: رُؤًى، ووَزْنا
إِلى شَمْسِ القِيامَةِ عِشْ هَدِيْلًا،
يُراوِدُ غَيْمَةَ الكَشْفِ المُكَنَّى!
* * *
-: أ إِخْوَةُ (يُوسُفٍ) رَهَنُوا أَباهُمْ؟
ويُوسُفَ؟ وارْتَأَى (التَّلْمُودُ) رَهْنا؟
أَصِخْ، يا جُبُّ: يُوسُفُنا عَزِيْزٌ،
كـ(مِصْرَ)! وخِبْتَ، إِخْوانًا، وفُزْنا!
وحتَّى يَسْقُطَ الغُيْبُ المُرَجَّى،
سنَغْزِلُ مِنْ أَزِيْزِ النَّوْلِ كَوْنا
لِتَكْتَشِفَ النَّوافِذُ وَجْهَ لُبْنَى؛
يُشَكِّلُ في الهَوَى قَيْسًا مُثَنَّى!
* * *
-: أَلا يا أَيها الأَطفالُ، هُبُّوا!
اصعَدوا في غُلْمَةِ الأَصواتِ لَـحْنا!
لَقَدْ تَأْتِي! دُعاؤكُمُ ارتِقاءٌ..
إلى صَدَفِ الكَواكِبِ، حَيْثُ كُنَّا!
...
تَشُبُّ الطَّيْرُ صاخِبَةَ الخَطايا،
لِتَبْنِي الصَّمْتَ: إِيمانًا، وأَمْنا
لِتَسْطَعَ فيكَ أَضْواءً غِزارًا،
تُبَدِّدُ مِنْكَ، في الظُّلُماتِ، سِجْنا
لِتَسْطَعَ فيكَ أَضْواءً غِزارًا،
فتَأكَلَ رِيْبَةً، أَكَلَتْكَ ظَنَّا
لِتَسْطَعَ فيكَ أَضْواءً غِزارًا،
تُدِيْرُ لِـمَسْرَحِ الإِبداعِ شَأْنا
فتُوْقِظَ فِيْكَ بَيْدَرَكَ الشَّآمِي،
وتَحْصُدَ مِنْكَ ما يَمَنٌ تَـمَنَّى
عُواءُ الرِّيْحِ.. لا يَثْنِيْكَ رِيْحا،
هَدِيْرُ البَحْرِ.. لا يَعْلُوْكَ حِصْنا
-: كُنِ المَعْنَى! تَقُوْلُ بَناتُ شِعْرِي،
وهَلْ لِسِواكَ مِنْ مَعْنًى لِيُبْنَى؟!
وَحِيْدًا، تُشْعِلُ الآبادَ، بَدْرًا
يَصُوْغُ هِلالَهُ، والمَوْتُ يَفْنَى!
(1) رُوبين: أكبر إخوة (يوسف)، الذين تآمروا عليه، حسب القِصَّة القرآنيَّة.
(2) هذا مَثلٌ شعبيٌّ. يُضرَب لما بلغ من الأمر اكتماله؛ فآذن بالنقصان فالفناء. مِثل النمل الذي لا تنبت له أجنحة إلَّا حين يبلغ نهاية حياته.
(3) ابتقَمَ، في لهجات جبال (فَيْفاء): اقتلَعَ، ولكن على نحوٍ استئصاليٍّ فيه عُنف. ولا نَجِد من هذه المادة في العربيَّة المدوَّنة إلَّا بقايا آثارها، الدالَّة على أصلها المندثر، أو المهمَل. من ذلك قول اللغويِّين: إنَّ التَبَقُّمُ: أكْلُ البَهِيمَةِ الكَلأ. وإنَّ بُقامة النادف: ما سقط من الصوف لا يقدر على غَزْله. (انظر: الصاحب بن عباد، المحيط في اللغة؛ ابن سيدة، المحكَم؛ ابن منظور، لسان العَرَب، (بقم)).
(4) الأسماء المشار إليها في الأبيات من أعلام الميثولوجيا الإغريقيَّة. ف(بوصيدون): إله البحار والمياه في أساطيرهم، ويقال إنه في الأصل إلهٌ (أمازيغيٌّ لِيبيٌّ)، اسمه (بوزيدون)، اقتبسته الميثولوجيا اليونانيَّة. و(ديميتر): آلهة الأرض والزرع والربيع. و(بيرسيفون): ابنتها الجميلة، عشقها (هَديس/ هاديس): إله العالم السُّفلي والموت، فاختطفها من أُمِّها، وغيَّبها عنها زمانًا. أمَّا (ابن زياد)، فإشارة إلى بطل الفتح الأندلسي المشهور: (طارق بن زياد)، المنسوب إليه حرق السُّفن، في الحكاية التاريخيَّة المعروفة؛ لمنع جيشه من الفرار، واضطرارهم إلى المواجهة. وهو- كما يرجِّح بعض المؤرِّخين- ينحدر من أصول أمازيغيَّة، مثل (بوزيدون)، إله البحار والمياه.
0 تعليقات