علي النصير
الفن لغة سامية حيث الإشراق الروحي والتأمل ولغة الحوار خاصة يبثها الفنان للقارئ او المشاهد او المستمع بأسلوب خاص، فيقدم له روح الاحساس والمشاعر على طبق من ذهب باعتبار ان الفن يمثل جزءا كبيرا من تطور البشرية ومجموعة متنوعة من الانشطة الإنسانية في خلق اعمال بصرية او سمعية او حركية والتي من خلالها يعبر الفنان عن افكاره بصورة فنية كاملة.
هنا نقرأ مشهدا محزنا ودراميا من خلال اللوحة الرائعة التي رسمها الفنان الفرنسي " جاك لوي ديفيد " عام 1787، بين خلالها موت سقراط في لحظاته الاخيرة. هناك الكثير من المقالات والكتابات التي تكلمت عن هذه الرائعة الحزينة، ووصفت من كثير النقاد والمحللين والفنانين الذين كان لتلك اللوحة اثر كبير على انطباعاتهم حتى سردوا اروع العبارات و بينوا اغلب الرموز والمفاتيح المشفرة في لوحة "ديفيد". حيث استلهم فكرة اللوحة من حياة سقراط ومشهده الأخير قبل تناول "الشكران".
حكم على سقراط بالإعدام من قبل السلطات الاغريقية بواسطة شرب كأس من " سم نبتة الشكران " كان حجة الحكم هو الدروس التي كان يقدمها الفيلسوف لتحريض الشباب وافساد عقولهم والتلاعب بالدين وانكار الآلهة. ففضل الموت على النفي من اجل ان يعطي درسا في المبادئ والعقيدة.
الآن سنبدأ برحلة الغوص في اعماق اللوحة نبحث عن الرموز والسيمائيات التي وضعها " ديفيد" امامنا كمشاهدين. نرى البطل الفيلسوف وهو يتوسط اللوحة مرتديا الملابس البيضاء التي تدل على السلام، وبجسد عضلي كانه خالد الوجود، يمد احدى يديه تحت كأس السم قبل ان يمسكه في لحظة دوران رأسه للاتجاه الاخر وكانه يقول انني لا اهتم بما سوف اتناوله، واليد الاخرى تؤشر نحو الاعلى وكانه يعطي درسا لتلاميذه عن العقيدة وحب الحياة العلوية متمسكا في مبادئه حتى اخر لحظة في حياته.
نلاحظ يمين اللوحة مجموعة من تلاميذه وهم في حالة انهيار على معلمهم الذي كان جالسا ويتكلم معهم فيرونه في موقف بطولي حقا، الشخص الجالس بالقرب من " سقراط " الذي يرتدي الملابس الحمراء وهو يضع كف يده على قدم معلمه هذا كان اقرب تلميذ لـ "سقراط " والشخص الواقف الذي بيده كأس السم مرتديا الملابس الحمراء ايضا هذا الحارس الذي قدم السم "للفيلسوف" وهو في حالة محزنة حيث يقدم على فعل شيء لا يريده لذلك نراه متجه برأسه بعيدا عن الكأس وعن " سقراط ".
اللوحة توحي لنا ان المشهد كان داخل سجن من خلال السلاسل الموجودة على الارض والوان الغرفة الداكنة، جميعها رموز وعلامات تدل على مفاتيح وضعها الفنان ليقوم المشاهد بتأويلها، فيراها تحمل بطلا ورمزا للشجاعة بصورة عبقرية جدا من خلال التعابير التي تحملها حيث طلب تلاميذه منه الهروب ولكنه اختار ان يمثل القانون ويحترمه كي يجعل له عبرة لغيره فيفعل ما فعله وهو ان يخضع للقانون بكل رحابة صدر.
نرى على يسار اللوحة شخص يرتدي الملابس البيضاء ايضا منحني الرأس وكأنه لا يريد ان يشاهد ما حدث لـ "سقراط" هذا الشخص هو" افلاطون" حيث اكتملت روعه " ديفيد" حينما وضع افلاطون بتلك الهيئة مبينا للمشاهد ان افلاطون منحني الراس ومغمض العينين وكانه يتذكر ما حدث لمعلمه وهو في سن ال29. لم يلتزم الرسام الفرنسي بالأعمار في اللوحة حيث رسم" سقراط" وهو في جسد عضلي وبنيه قويه بالرغم من ان سقراط كان كبيرا في السن اضافة لـ "أفلاطون" الذي يجلس على يسار اللوحة على هيئة شخص كبير لكنه في الحقيقة كان في عمر ال29 سنه ولم يحضر لحظة معلمه الأخيرة حيث ابى على ذلك فبقي بعيدا عن مشاهدة موت " سقراط".
هناك صوب اليسار من اللوحة حيث نجد رجلا يرتدي سترة زرقاء ووجه صوب الحائط، وهو يضع كلتا يديه على الحائط ايضا، هذا احد تلاميذ "سقراط " الذي طرده بسبب حزنه وبكاءه الشديد. لازلنا صوب اليسار من الصفحة، حيث نشاهد امرأة تصعد السلم بملابس حمراء وتلوح بيدها، هذه زوجة "سقراط" التي كانت تودعه بنظرة من بعيد.
وفق دافيد في نشر الفكر السياسي وبث روح الثورة وتحفيزها من خلال رسمه لهذه اللوحة التي لم تختصر فقط على مشهد موت "المعلم" انما جعل لناظرها هدفا اخر بكل تقنيه وأبداع جمالي حتى عرفت هذه اللوحة عالميا كرمز للثورة ضد الظلم والاستبداد. لنطيل النظر في اللوحة والتحديق لقراءة عناصر تكوينها ( السلاسل الموجودة على الارض- الملابس البيضاء التي تدل على السلام- حالة حزن الاصدقاء- مد اليد تحت الكأس بلحظة معبرة جدا- زوجة سقراط وهي تودعه من بعيد بنظرة اخيرة- جلوس افلاطون عكس المشهد- توزيع الاضاءة والالوان والتناغم الكوني والجمالي- جدران السجن والحارس الحزين) جميعها علامات جمال وعظمة نادرة جدا. تأخذ هذه اللوحة على الارجح بعدا تراجيديا نستطيع ان نقرأ بها الوجع والدراما الانسانية. انها سمفونية الفن بكل ابعادها وبما تحمله من رموز وعلامات وعمق جمالي بحت لا يفنى ابدا.
0 تعليقات