د. سحر أحمد علي الحاره
الفَقْرُ لا يعني الذُّل، الفقر لا يعني التَّسَوُّل، الفقر لا يعني التَّخلّف، وقد يملِكُ أحدُهم القصورَ والأموال ويبقى في نفسِهِ ذليلاً وضيعاً، يتسوّل السّرقات، عبداً للمال أينما وجدَهُ، وبأيّةِ طريقة. وقد يَفتقِرُ أحدُهم لأبسطِ مُقوّماتِ العيش، ويبقى في نفسِهِ عزيزاً عفيفاً، يرفُضُ المال -مهما كانت حاجتُهُ إليه- إذا كان بطريقةٍ لا تُناسِبُ عزةَ نفسِهِ وكرامتها..
وما أبلغَ قولَ أبي نُواس في عزة النّفس:
وقد زادني تِيْهاً على النّاسِ أنّني
.......... أرانيَ أغناهم وإنْ كُنتُ ذا فَقْرِ
فواللهِ لا يُبدي لسانيَ حاجةً
.......... إلى أحدٍ حتّى أُغَيَّبَ في قبْري
وعزةُ النّفسِ لا علاقةَ لها بالغِنى أو بالفقر، بل هي صفةٌ فِطريّة أصيلة بالشخص، أو بالمجتمع، وقد نصفُ بها الأفراد وقد نصفُ بها الشعوب، وكثيراً ما سمعنا أنّ في بلاد الغربة يصفون شعبَ دولةٍ ما بصفة تميّزه عن سواه من الشعوب، وهذه حقيقة، أمّا في بلادي سوريانا الحبيبة -وفي أشد الظروف التي مرّتْ بها- كانت تستوقفني حوادثُ عديدةٌ تعبّرُ عن عزةِ النّفس في أبهى صورها، ولاجديدَ على السّوري الحُرّ العتيق! وتعود بي الذاكرة إلى موقفٍ لا يُنسى، رجلٌ أنيق يمشي بسرعة فيتوقّفُ فجأة حين يرى على جانب الطريق شخصاً بدا عليه الفقر والعوز، ولكنّه كان يقف بتعبٍ وتثاقُلٍ حاملاً ثلاثة أقلام عاديّة بقصد (البيع)! وواضح من هيئته أنّه يفعل ذلك لكيلا يطلُبَ المال بمهانة! نظر الأنيق إلى البائع المُحتاج، وفكر قليلاً ثم مدّ يده ليصافِحَهُ وقدّم له مبلغاً يزيد كثيراً جداً عن ثمن الأقلام المعروضة للبيع! فردّ عليه المحتاج لاعليك يا أخي تكفيني يدُك الممدودة لمصافحتي، وعدم تجاهلي، وقد أكرمتني، وصافحتني بطريقة النشامى وأهل الكرامة، ولكن لن آخذَ منك سوى ثمن الأقلام فحسب، وردّ إلى الرجل الأنيق -بحزم- بقيّة المال!! تمعّنْتُ كثيراً في موقف كليهما! موقف فطري أصيل، لا تشوبه استثناءات هنا وهناك، فهي -وإن كثرت- استثناءات مُكتسبة غير أصيلة، ولا تعبر عن العمق الحقيقي لهذا الشعب العظيم.
ومِن مواقفِ عِزة النفسِ أيضاً ما أستذكرُهُ حين مَرَرْتُ بطريقٍ في إحدى الحارات الواسعة في المدينة، فرأيت فتىً صغيراً يمشي إلى جانب دراجتِهِ التي وضع عليها كيساً يملؤه بالأغراض وعُلب البلاستك، وما شابه مِمّا يلتقطه مِن الشوارع! أشفقْتُ عليه واقتربت منه وأنا أفتح حقيبتي لأعطيه مِمّا تيسّر منها، وما إنْ مَدَدْتُ يدي له حتى قاطعني صائحاً: لا! لستُ مِمّن تظنين! إنني أعمل! إنني أعمل! ... أحرجتني كلماته كثيراً! وكنتُ سأعتذر منه وأقول له إنّني لم أقصد إلا العَون! وكأنّه عرف ما سأقولُهُ فشكرَ مبادرتي وتابع عمله قائلاً: إنّني وكما تَرَيْنَ: معي دراجتي وفيها كيسٌ كبير أجمع به ما يتسنّى لي مِن بعضِ العُلب البلاستيكية وغيرِها مِن الأغراضِ لصالحِ مصانعِ إعادةِ التّدوير والتصنيع.. ثم مِن جديد شكرني! فحيّيتُهُ وشجّعتُهُ قائلة: الله يقويك !
مشيتُ أفكّر ملياً في أزمتِنا التي بدأت بحربٍ ليست كالحروب، وها هي تستمرّ بحربٍ اقتصادية تفوق الوصف، ولكن كعادتهم مازال السوريون يحافظون على مبادئهم وكرامتهم.. حيّاكم الله وقوّاكم أصحابَ عزةِ النّفس المجهولين على امتدادِ الوطن، وطن العزة!
وفي السياق نفسِهِ أذكر هنا ما قاله لي أحد الأصدقاء منذ فترة غير بعيدة، قال لي: كنت أشتري بعضَ مستلزماتِ أسرتي مِن أحدِ المحالِّ التّجارية فَلَفَتَ انتباهي سيدةٌ ريفيّة بائسة المظهر، تقول للبائع يا معلم لقد فاجأتني بأسعار المواد اليوم! لم تكن كذلك من يومين فقط! وهل تتزايد الأسعار بهذه السرعة! ويوماً بعد يوم؟ إنني وبصراحة لا يتوفر معي ما تريد، ينقصني بعض المال لاستكمال المبلغ؟! أعطني بسعر الأمس وأنا على يقين أنك لن تخسر! فيقول لها البائع: سأرد هذه الحاجيّات ريثما يتوفر معك المبلغ المطلوب.. حاولت هذه السيدة التفاوض معه بعباراتِ ضيق الأحوال وصعوبتها، و(....)، وأنها بأمسّ الحاجة لما تريد شراءه، وأنّها قد قطعت مسافة كبيرة من الريف إلى المدينة، وقد أضناها تعبُ المواصلات ومشقّتُها، لكنّه لم يأبه لقولها! عندئذ اقتربْتُ مِن السيدة باندفاع النّشامى وقد أثّر بي تصرُّفُ البائع وآلمني -يتابع الصديق قوله- أختي وقد مدّ يدَه وفيها بعضُ الأوراق النقدية لاستكمال المبلغ المطلوب، أختي أرجو منك أن تتكرمي عليّ بأخذها، ولي أجري عند الله.. ذَهِلَتْ هذه السيدة -والكلام للصديق طبعاً- ونظرت إليّ بدهشة الكبرياء، وقالت: لا ياأخي أنا لست مِمّن يستعطفُ الناس! فعلك هذا كبير، وجزاؤك عند الله بالتأكيد، وجميلُ فعلِكَ سبق قولَكَ، لكنّني أعتذر منك، دع مالَك لأسرتك وأولادك، كرامتي لاتسمح لي بهذا ! ربما أتفاوض مع التاجر لأخفّفَ مِن ربحه، وليس مِن ثمن البضاعة، وهذا حق. لكنّي لم أُخلق لأستعطفَ الناسَ مهما كانت الظروف ؟!.. يتابع الصديق فيقول مُتعجّباً ومُعجباً من ردة فعلها وتعفُّفِها: يا لك من سيدة تفوق الوصف، لنا ولكِ الله، ولاحولَ ولاقوةَ إلا بالله.. أيتها السيدة الرائعة الأبيّة النفس، عشْتِ أنتِ وأمثالُكِ مُشبعةَ الأخلاقِ الرفيعة، والكرامة العفيفة، مرفوعةَ الرأس، شامخة الجبين، في بلد متجذرة الأصالة، في بلد خلّاقة بكل ما هو أصيل، على الرَّغم مِن الظروف والمتاعب..
عاشت سوريا عزيزة النّفس، مُكرّمةً برجالها ونسائها . .
وما أبلغَ قولَ أبي نُواس في عزة النّفس:
وقد زادني تِيْهاً على النّاسِ أنّني
.......... أرانيَ أغناهم وإنْ كُنتُ ذا فَقْرِ
فواللهِ لا يُبدي لسانيَ حاجةً
.......... إلى أحدٍ حتّى أُغَيَّبَ في قبْري
وعزةُ النّفسِ لا علاقةَ لها بالغِنى أو بالفقر، بل هي صفةٌ فِطريّة أصيلة بالشخص، أو بالمجتمع، وقد نصفُ بها الأفراد وقد نصفُ بها الشعوب، وكثيراً ما سمعنا أنّ في بلاد الغربة يصفون شعبَ دولةٍ ما بصفة تميّزه عن سواه من الشعوب، وهذه حقيقة، أمّا في بلادي سوريانا الحبيبة -وفي أشد الظروف التي مرّتْ بها- كانت تستوقفني حوادثُ عديدةٌ تعبّرُ عن عزةِ النّفس في أبهى صورها، ولاجديدَ على السّوري الحُرّ العتيق! وتعود بي الذاكرة إلى موقفٍ لا يُنسى، رجلٌ أنيق يمشي بسرعة فيتوقّفُ فجأة حين يرى على جانب الطريق شخصاً بدا عليه الفقر والعوز، ولكنّه كان يقف بتعبٍ وتثاقُلٍ حاملاً ثلاثة أقلام عاديّة بقصد (البيع)! وواضح من هيئته أنّه يفعل ذلك لكيلا يطلُبَ المال بمهانة! نظر الأنيق إلى البائع المُحتاج، وفكر قليلاً ثم مدّ يده ليصافِحَهُ وقدّم له مبلغاً يزيد كثيراً جداً عن ثمن الأقلام المعروضة للبيع! فردّ عليه المحتاج لاعليك يا أخي تكفيني يدُك الممدودة لمصافحتي، وعدم تجاهلي، وقد أكرمتني، وصافحتني بطريقة النشامى وأهل الكرامة، ولكن لن آخذَ منك سوى ثمن الأقلام فحسب، وردّ إلى الرجل الأنيق -بحزم- بقيّة المال!! تمعّنْتُ كثيراً في موقف كليهما! موقف فطري أصيل، لا تشوبه استثناءات هنا وهناك، فهي -وإن كثرت- استثناءات مُكتسبة غير أصيلة، ولا تعبر عن العمق الحقيقي لهذا الشعب العظيم.
ومِن مواقفِ عِزة النفسِ أيضاً ما أستذكرُهُ حين مَرَرْتُ بطريقٍ في إحدى الحارات الواسعة في المدينة، فرأيت فتىً صغيراً يمشي إلى جانب دراجتِهِ التي وضع عليها كيساً يملؤه بالأغراض وعُلب البلاستك، وما شابه مِمّا يلتقطه مِن الشوارع! أشفقْتُ عليه واقتربت منه وأنا أفتح حقيبتي لأعطيه مِمّا تيسّر منها، وما إنْ مَدَدْتُ يدي له حتى قاطعني صائحاً: لا! لستُ مِمّن تظنين! إنني أعمل! إنني أعمل! ... أحرجتني كلماته كثيراً! وكنتُ سأعتذر منه وأقول له إنّني لم أقصد إلا العَون! وكأنّه عرف ما سأقولُهُ فشكرَ مبادرتي وتابع عمله قائلاً: إنّني وكما تَرَيْنَ: معي دراجتي وفيها كيسٌ كبير أجمع به ما يتسنّى لي مِن بعضِ العُلب البلاستيكية وغيرِها مِن الأغراضِ لصالحِ مصانعِ إعادةِ التّدوير والتصنيع.. ثم مِن جديد شكرني! فحيّيتُهُ وشجّعتُهُ قائلة: الله يقويك !
مشيتُ أفكّر ملياً في أزمتِنا التي بدأت بحربٍ ليست كالحروب، وها هي تستمرّ بحربٍ اقتصادية تفوق الوصف، ولكن كعادتهم مازال السوريون يحافظون على مبادئهم وكرامتهم.. حيّاكم الله وقوّاكم أصحابَ عزةِ النّفس المجهولين على امتدادِ الوطن، وطن العزة!
وفي السياق نفسِهِ أذكر هنا ما قاله لي أحد الأصدقاء منذ فترة غير بعيدة، قال لي: كنت أشتري بعضَ مستلزماتِ أسرتي مِن أحدِ المحالِّ التّجارية فَلَفَتَ انتباهي سيدةٌ ريفيّة بائسة المظهر، تقول للبائع يا معلم لقد فاجأتني بأسعار المواد اليوم! لم تكن كذلك من يومين فقط! وهل تتزايد الأسعار بهذه السرعة! ويوماً بعد يوم؟ إنني وبصراحة لا يتوفر معي ما تريد، ينقصني بعض المال لاستكمال المبلغ؟! أعطني بسعر الأمس وأنا على يقين أنك لن تخسر! فيقول لها البائع: سأرد هذه الحاجيّات ريثما يتوفر معك المبلغ المطلوب.. حاولت هذه السيدة التفاوض معه بعباراتِ ضيق الأحوال وصعوبتها، و(....)، وأنها بأمسّ الحاجة لما تريد شراءه، وأنّها قد قطعت مسافة كبيرة من الريف إلى المدينة، وقد أضناها تعبُ المواصلات ومشقّتُها، لكنّه لم يأبه لقولها! عندئذ اقتربْتُ مِن السيدة باندفاع النّشامى وقد أثّر بي تصرُّفُ البائع وآلمني -يتابع الصديق قوله- أختي وقد مدّ يدَه وفيها بعضُ الأوراق النقدية لاستكمال المبلغ المطلوب، أختي أرجو منك أن تتكرمي عليّ بأخذها، ولي أجري عند الله.. ذَهِلَتْ هذه السيدة -والكلام للصديق طبعاً- ونظرت إليّ بدهشة الكبرياء، وقالت: لا ياأخي أنا لست مِمّن يستعطفُ الناس! فعلك هذا كبير، وجزاؤك عند الله بالتأكيد، وجميلُ فعلِكَ سبق قولَكَ، لكنّني أعتذر منك، دع مالَك لأسرتك وأولادك، كرامتي لاتسمح لي بهذا ! ربما أتفاوض مع التاجر لأخفّفَ مِن ربحه، وليس مِن ثمن البضاعة، وهذا حق. لكنّي لم أُخلق لأستعطفَ الناسَ مهما كانت الظروف ؟!.. يتابع الصديق فيقول مُتعجّباً ومُعجباً من ردة فعلها وتعفُّفِها: يا لك من سيدة تفوق الوصف، لنا ولكِ الله، ولاحولَ ولاقوةَ إلا بالله.. أيتها السيدة الرائعة الأبيّة النفس، عشْتِ أنتِ وأمثالُكِ مُشبعةَ الأخلاقِ الرفيعة، والكرامة العفيفة، مرفوعةَ الرأس، شامخة الجبين، في بلد متجذرة الأصالة، في بلد خلّاقة بكل ما هو أصيل، على الرَّغم مِن الظروف والمتاعب..
عاشت سوريا عزيزة النّفس، مُكرّمةً برجالها ونسائها . .
0 تعليقات