علي الصراف
الديمقراطية هي أداة لصناعة خيارات يُفاضل في ما بينها الناس والناس ليسوا بلا عقول لكي "يجرّبوا المجرب"، لقد عرفوا ما معنى الفشل ورأوه رؤيا العين في منازلهم التي تهدمت وأرضهم التي نُهبت.
فتح وحماس لم تقدما للناخب الفلسطيني إلا الفشل
طرفا الانقسام الفلسطيني هما نفسهما طرفا الفشل. وإذ يزعمان دخول الانتخابات في قائمة مشتركة، فمن أجل أن يجمعا بين الأمرين: أن يكرسا الفشل، وأن يبقيا في السلطة.
الافتراض السائد لدى قيادتي حركة فتح وحركة حماس، هو أنهما تستطيعان أن تقتسما السلطة والنفوذ في ما بينهما، وفقا لتناسبية تتفقان عليها، وأنهما تستطيعان بذلك أن تُنهيا الانقسام.
ولكن ذلك ليس سوى خدعة. وهو خدعة للنفس قبل الآخرين. لأن إنتاج نظام محاصصة حزبية، لن يفعل سوى أن يكرّس الانقسام لا أن ينهيه.
الهوة العقائدية والسياسية والثقافية بين الحركتين أوسع من أن تُردم. وتصوراتهما لسبل الكفاح ضد الاحتلال مختلفة، كما أن تصوراتهما لمسار المفاوضات مختلفة أيضا. بجملة واحدة: إنهما مختلفتان في كل شيء. وهو ما يجعل تحالفهما مجرد كذبة مفضوحة على النفس، ومحاولة بائسة لخداع الفلسطينيين.
الأغراض نفسها هزيلة. حركة حماس تريد من التفاوض على قائمة مشتركة أن تُظهر نفسها لإسرائيل أنها صارت أكثر اعتدالا. بينما تريد فتح أن تعود لتكسب شعبية فقدتها بالعودة إلى شيء من شعاراتية المقاومة. ولكن لا إسرائيل سوف تنخدع باعتدال حماس، ولا الفلسطينيون سوف ينخدعون ببطولات مقاومة وهمية.
سياسيا، لا تملك هاتان الحركتان إلا الشعارات المهترئة؛ إلا المزاعم البطولية الوهمية، إلا التهاويم والافتراضات التي لا تمسّ أسس الأزمة، ولا تملكان سبيلا لمعالجتها
مفهوم أكثر من ذلك، أن كلا الحركتين تريدان أن تحتفظا بالسلطة، لا أن تتركا مصيرهما يتقرر بأصوات الناخبين. فبافتراض أنهما تمتلكان كل أدوات الدعاية والحشد والتجنيد، فبوسعهما أن تحافظا كلٌّ على مركزها ونفوذها ومكاسب سلطتها.
ولئن بدا وكأنهما توجهان طعنة عصماء للديمقراطية، التي تتطلب تنافسا وتعددية، فهذا آخر الهمّ بالنسبة لهما.
التعددية في الديمقراطية هي، في الواقع، ليست سوى تعددية خيارات وبرامج وحلول، ويتعين على الناخب الفلسطيني أن يُفاضل في ما بينها، فينتخب من يعتقد أنه الأصوب.
حركتا فتح وحماس تريدان، بفكرة القائمة المشتركة، أن تلغيا المفاضلة. لتقولا لكل ناخب “تريد فقوسا، خذ فقوسا. تريد خيارا، خذ فقوسا”.
وهذا ما لا علاقة له بالديمقراطية، كما لا علاقة له باحترام إدارة الناخبين، كما أنه لن يقدمهما أمام العالم كشيء محترم.
سلطتا هاتين الحركتين لم تقدما للناخب الفلسطيني إلا الفشل، على جميع المستويات. لا هما كسبتا المقاومة، ولا هما كسبتا السلام. ورغم كل النكران، فقد كانتا سلطتي فساد مكشوف، ومحسوبيات معلنة. ولا تملكان برنامجا سياسيا واقعيا، ولم تفعلا على طول مدة بقائهما في السلطة أكثر من تقديم الفشل الإداري، والفقر والبطالة، ونقص القدرة على بناء رؤية ناضجة لتسوية النزاع مع إسرائيل ولا حتى مواجهة جرائمها وأعمالها التوسعية.
ولقد كان ملفتا، أنهما عندما أعلنتا عن إنشاء قيادة مقاومة شعبية مشتركة، فقد انتهت هذه القيادة إلى بيان لم يحرك في مشاعر الناس شيئا، وفشلت دعوتها إلى القيام بتظاهرة ضد الاحتلال.
هذا الفشل لم تتم قراءته من جانب هاتين الحركتين على أنهما لم تعودا تتمتعان بالتأييد ولا بالثقة.
الفشل في إخراج مظاهرة، كان له معنى آخر، لم يتم فهمه أيضا. فالتظاهرات لا تخرج بقرار. إنها انفعال شعبي، عندما يتوفر له ما يبرره فإنه يندلع. ولكن سلطة المكاتب الوثيرة لا تزال تعتقد أنها قادرة على “تحريك الجماهير” بإشارة من إصبع. وهذا فيه من الاستخفاف ما فيه.
انطباع فوقي مثل هذا هو ما يشكل كل فهم هاتين الحركتين لدورهما في السلطة. ولقد ثبت أنه انطباع فارغ. وينطوي على شلل حتى في القدرة على التفكير.
محاولات بائسة لخداع الفلسطينيين محاولات بائسة لخداع الفلسطينيين
وإذ أنهما تريدان توجيه إهانة لحق الناس في الاختيار، بثقل الإهانة للديمقراطية، فكل هذا مفيد. يقول المثل “هيك مضبطة، بدها هيك ختم”. فسلطتان كهاتين، لا تستحقان إلا قائمة مشتركة، تجمع فشلهما معا، لتقدمه لـ”الجماهير” في قالب واحد. وحتى لو اختارت قيادتا الحركتين “النزول” بقائمتين منفصلتين، فالواقع بات هو نفسه ينظر إليهما على أنهما قائمة فشل واحدة. ويكفي أنهما تفكران بما تفكران به، ليكون الأمر دلالة على نقص فظيع في القدرة على التفكير.
سياسيا، لا تملك هاتان الحركتان إلا الشعارات المهترئة؛ إلا المزاعم البطولية الوهمية، إلا التهاويم والافتراضات التي لا تمسّ أسس الأزمة، ولا تملكان سبيلا لمعالجتها.
والقوالب التي قولبت خياراتهما صارت هي نفسها عائقا. شيء يشبه ارتداء حذاء خشبي يحول دون نمو القدم. وهما لا تملكان سواه، ولا فكّرتا بالخروج منه، ولا ابتداع رؤى جديدة للحل، ولا أدوات لفرضه، ولا خارطة طريق واضحة إليه، ولا أقنعتا “جماهيرهما” بأن خياراتهما هي الخيار الذي لا سبيل سواه.
وكل هذا مفيد، لكي يتم الرمي بهما خارج صناديق الانتخابات.
إنها فرصة للمستقلين، وللتيار الإصلاحي في حركة فتح، ولآخر يمكن أن ينشأ داخل تيارات غزة الإسلامية، وللناس كافة، أن ينظروا إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة على أنها فرصتهم لقول كلمة الحق. ولكن ليس للرد على الفشل فقط، وإنما لبناء قوة تغيير.
هذه القوة إذا ما التأمت على نفسها، فإنها تستطيع أن تقلب الطاولة على أهل الانقسام، لتعود فتقدم الشعب الفلسطيني نفسه كقوة قائدة لمسار جديد.
وهناك رئيس محتمل، هو الأسير مروان البرغوثي، الذي يستطيع حتى وهو في سجنه، أن يعيد وضع الضمائر في نصابها. وأن يعيد القضية إلى أهلها ويُخرجها من مكاتب الشلل.
القيادي الفلسطيني محمد دحلان حتى وإن بدا نائيا ومتعففا، فإنه يملك القدرة على تحريك المياه الراكدة، وعلى الخروج من المستنقع الضحل الذي دخلته المفاوضات مع إسرائيل.
الافتراض السائد لدى قيادتي حركة فتح وحركة حماس، هو أنهما تستطيعان أن تقتسما السلطة والنفوذ في ما بينهما، وفقا لتناسبية تتفقان عليها
سواء دخلت فتح الرسمية في قائمة مشتركة مع حماس، أم لم تدخل، فإن قائمة الفشل قائمة. و”رُبّ ضارة نافعة”. فالذين يريدون أن يحوّلوا الديمقراطية إلى حمار يركبوه، بنقص قدرتهم على تقديم خيارات وبدائل واقعية ومقنعة، يمكنهم أن يتحالفوا على ركوب الحمار، إلا أنه لن يوصلهم إلى الهدف المنشود: البقاء في السلطة إلى الأبد.
الديمقراطية هي أداة لصناعة خيارات يُفاضل في ما بينها الناس. والناس ليسوا بلا عقول لكي “يجربوا المجرب”. لقد عرفوا ما معنى الفشل، ورأوه رؤيا العين في منازلهم التي تهدمت، وأرضهم التي نُهبت، ولقمة عيشهم التي سُرقت.
سيقولون لمناضلي الحركتين السلطويتين: شكرا، لقد فعلتم ما استطعتم، وآن أوان التغيير.
وعلى نحو ما كان الفشل فاقعا والطريق مسدودا، فإن التغيير نفسه يمكن أن يأتي فاقعا بجرأته على بناء إدارة مسؤولة، وعلى وضع خارطة طريق أخرى، وعلى الخروج من المستنقع.
0 تعليقات