عدلي صادق
الإسرائيليون يتقمصون دور الضحية ويتحدثون عن مظلوميات يرتكبها أطفال بحقهم، مستشهدين برئيس السلطة محمود عباس الذي فاخر بأنه وجّه أجهزته الأمنية لتفتيش حقائب التلامذة في المدارس لتنتزع منها السكاكين.
صورة مشوهة عن المجتمع الفلسطيني
لم يعد المحتلون الإسرائيليون يكترثون للسلطة الفلسطينية وقيادتها ولا يأبهون إلى كل ما يقوله محمود عباس شجباَ لتطبيع. الحقيقية هناك العديد من الأسباب التي تفسّر ذلك من بينها أنه هو الذي أضعف نفسه بنفسه، عندما تخلص من الحيثيات السياسية والدستورية للنظام الفلسطيني، فأصبح بلا منظومة وبلا نظام، بالمعنى المعروف والشروط المعروفة في الاجتماع السياسي ونظرية الدولة. فما لديه، هو محض حاشية صغيرة، لا تمتلك وزنا في المجتمع. وربما من بين هذه الأسباب أيضا، أن عباس أسهم بنفسه في محاولات تشويه صورة الشعب الفلسطيني، ما استحق عدم التعويل عليه، بالتالي بدأت الآن عملية الاستفادة من تفوّهاته التي شوّهت المجتمع الفلسطيني، دون الإشارة إلى أن الرجل عندما كان يفاخر بأنه، على سبيل المثال، وجه أجهزته الأمنية لتفتيش حقائب التلامذة في المدارس، لكي تنتزع منها السكاكين؛ كان قصده التأكيد على حرصه الشديد على أمن إسرائيل!
في عددها يوم الثلاثاء 27 أكتوبر نشرت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية تحليلا مطوّلا عن المجتمع الفلسطيني كتبته ميلودي سوشاريفيتش، وهي مستشارة إسرائيلية ـ ألمانية لنتنياهو ولوزير الحرب في الشؤون الخارجية والاستراتيجية والاتصالات، تحدثت فيه بأسلوب الصحافة الاستقصائية عن “تطرف المجتمع الفلسطيني وقناعته بالعنف وبجماليات الموت على دربه”!
كان محمود عباس في لقاءين مع التلفزيون الإسرائيلي يشرح، وكل ما شرحه لم يكن صحيحا، أن الأمن الفلسطيني انتزع من حقائب التلامذة الصغار العشرات من السكاكين في يوم واحد ومن مدرسة واحدة لأنه يريد أن يحمي الإسرائيليين. فهو أبرع منهم في حمايتهم حسب قوله. ولا يزال الفلسطينيون يستعيدون الشريط عبر وسائل التواصل، ويدققون في ابتسامته الموحية بإعجاب كبير بالنفس، وهو يروي روايته، بكل ما عُرف عنه من ثقل الظل والإيحاء بالحنكة.
كانت المذيعة الإسرائيلية التي تُجري اللقاء معه، تتظاهر بالتقبل الحسن لما يقول، كمن يشجعه على الاسترسال، مدركة أن الرجل ضحل ولا يعرف ما هو المجتمع، أي فاقد للمعرفة بالأبعاد الاجتماعية لما يقول، ولا يعي أن ما يقوله يسيء للأسرة الفلسطينية وللمدرسة الفلسطينية وللمعلم الفلسطيني، وبالمحصلة للمجتمع الفلسطيني كله.
وهذا صحيح تماما لأن الرجل أصلا في شغل وظيفة الرئاسة، يعيش حياة منزوعة الدسم بالمطلق اجتماعيا، ولا تنفرج أساريره إلا عندما يسافر أو يحضر مسابقة غنائية أو يرتب لنجليه وساطة مع رأس نظام عربي. فهو لا يُرى في مجلس عزاء في الضفة، ولم يزر بقايا أسرة تعرضت للحرق في منزلها بأيدي المستوطنين. السكرتاريا في مكتبه تبادر بين حين وآخر من تلقاء نفسها، إلى ترتيب مكالمات انتقائية لكي يتقدم بتعزية تستغرق دقيقة، بقصد خلق نوع من الممارسة الاجتماعية له عند النوائب.
اليوم، يتعامل الإسرائيليون معه بأسلوب “من فمك أدينك”. فهو لم يستطع أن يفهم فكرة بسيطة، وهي أن من يصنعون السلام أو يحاولون صنعه يكونون أصلا قد خاضوا حربا، وفي الحرب، يَحدث القتل المتبادل.
وفي حرب الفلسطينيين ضد المحتلين الإسرائيليين، كان القتل الإسرائيلي للفلسطينيين والعرب، أكثر من مئة ضعف القتل الفلسطيني والعربي للطرف الآخر. لكن عباس، الوحيد، من بين كل الذين قفزوا إلى مواقع القيادة في حركات التحرر على مرّ التاريخ؛ الذي جعل كفاح شعبه المسلح، وهو في الجوهر دفاع عن النفس، إرهابا مذموما بأثر رجعي، بل هو يزيد وفي ذهنه أنه سيثير الإعجاب دوليا، فيقول إنه لا يحب السلاح ولم يحمله. وكأن الرجل فيلسوف وصاحب أفكار، أو زاهد متبتل من شاكلة المهاتما غاندي، لا يحتاج إلى السلاح للدفاع عن نفسه، أو كأنه مفكر مبدع، سلاحه العقل والقلم. فهو لا يكره السلاح ولا يعرفه، لكنه لا يقول من يحب وماذا يعرف!
بسبب هذا المنطق، تستهل مستشارة رئاسة الوزراء ووزارة الحرب، مقالتها الطويلة بجملة سخيفة واستعلائية ومجافية للمنطق، تقول فيها “يمكن لطفل فلسطيني أن يذهب إلى مدرسته، عبر شارع يحمل اسم ‘أبوجهاد’ الذي خطط لعملية اختطاف حافلة، أسفرت عن مقتل 38 إسرائيليا، من بينهم 13 طفلا، ويمكن أن يقضي الطفل يومه التعليمي في مدرسة تحمل اسم مؤسس حماس أحمد ياسين، وينهي اليوم في مركز شبابي يحمل اسم الإرهابي ‘أبوإياد’ المسؤول عن قتل الرياضيين الأولمبيين الإسرائيليين في ميونخ!”.
اللافت هنا، أن المستشارة الألمانية الإسرائيلية تحاول بدءا، تحميل الطفل المسؤولية عن اسم الشارع الذي مرّ منه، واسم المدرسة التي يتعلم فيها، وتعلل ذلك بذكر اثنتين مما تعتبرهما فظائع ارتكبها فلسطينيون، ومجموع القتلى في الحادثتين، لا يصل إلى سبعين. لكنها في سياقها الديماغوجي، تتكتم على مجازر نفذتها إسرائيل ببشاعة، قبل كل حادث وبعده.
ولكي لا نذهب بعيدا، تتجاوز عن حقائق الخسائر في الأرواح، ناهيك عن الجرحى والمسجونين في انتفاضة الأقصى التي اندلعت في العام 2000 واستشهد خلالها من المدنيين الأبرياء 4464 أكثر من نصفهم من الأطفال.
أما الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حماس، فإن ما جرى في واقعة قتله بنذالة يمكن أن تعرض على سكان الكوكب الأرضي كله، مع سؤال: هل يقبل أي إنسان، أن تتربص طائرة حربية حديثة، لرجل كبير السن ومقعد، يستخدم كرسيا متحركا، لتقصفه عندما يخرج من صلاته في المسجد، فتحوله إلى فتات؟ ويمكن أن يبدأ استطلاع الرأي من مراكز المجرمين والمتعصّبين الذين سيكون جوابهم أن المُقعد لا تستهدفه طائرة قتال لكي تحوله إلى أشلاء.
وعلى الرغم من ذلك، يتقمص المحتلون دور الضحية ويتحدثون عن مظلوميات، ولأنهم استنفدوا أغراضهم من رئيس السلطة، تحولوا إلى الاستفادة من تفوّهات الترضية التي أسمعها لهم، وقد جاء الوقت للاستفادة منها واتخاذها براهين على “عدوانية” المجتمع الفلسطيني، الذي يُعلم أطفاله حمل السكاكين، تحفزا لطعن المستوطنين “المسالمين”!
وتستطرد المستشارة شارحة، فتقول “إن كل طفل فلسطيني يبلغ من العمر 12 عاما يدعو ربّه أن يصبح شهيدا”. وهنا تستغل المستشارة براءة الأطفال في تعبيراتهم التي لا شك أنها تُعلّي من مكانة الشهيد المغدور، وتتناسى أن نسبة كبيرة من سكان الضفة وغزة، أصبحت بسبب فساد السلطتين وفشلهما، تتمنى أن تنفتح سوق العمل الإسرائيلية، لكي يعود العاملون القدامى إلى مراكز عملهم، ومعهم عاملون جدد.
يفترض أن يستفيد الفلسطينيون من التقرير أو التحليل الذي نشرته “جيروزاليم بوست” الثلاثاء، لأخذ العبرة والتنبه إلى ضرورة إعادة النظر في اللغة المستخدمة، التي يوحي أكثرها بأن المجتمع الفلسطيني مشتل لصناعة التطرف والحث على العنف وتجميل الموت. فالكاتبة تقول “يتلقى الأطفال الفلسطينيون في سن مبكرة ثقافة الموت الإسلامية الاستشهادية، التي تحفزها أصوات معادية للسامية، على غرار غوبلز (وزير الدعاية النازية) وتلك دعاية تثير كراهية لا رجعة فيها تجاه اليهود وإسرائيل”.
هم يقولون هكذا، ما يجعل الفلسطينيين بالضرورة، أحرص على وقف الخطاب المبالغ فيه، والتركيز على وحشية وعدوان الطرف الآخر، وعلى المظلومية الفلسطينية، والتنبه إلى ترف الخطابة من فوق المنابر، وتحويل الصياغات إلى صيغ دفاعية، وإسكات الأصوات المتخلفة التي تتحدث عن زوال إسرائيل في العام القادم.
لقد أراد عباس استرضاء إسرائيل، بتشويه المجتمع وتدمير مؤسساته، وحان الوقت لإنكار “أفضاله” عليهم وجعل تفوهاته حجة على شعبه!
على الرغم من ذلك، فإن مشكلة المحتلين لا تزال قائمة تلخصها حقيقة واحدة، وهي أن إسرائيل لو طبّعت مع العالم العربي كله، عاصمة عاصمة وبيتا بيتا، فلا قيمة لذلك طالما أن هناك ستة ملايين فلسطيني موجودون على أرضهم، ومحرومون من حقوقهم، ولا يزالون بلا حل!
0 تعليقات