علي الصراف
جانب من شعور الإسرائيليين بالتفوق إنما يعود إلى تلك "البعبعية" التي صنعها الخائفون من البعبع فعندما يمد لك إسرائيلي يده ويراك ترتجف لا بد أنك تترك له شعورا بأنه كائن خرافي.
التطبيع ينهي حربا بالمعنى التقليدي، ليبدأ أخرى
إسرائيل ليست بعبعا، والإسرائيليون ليسوا كائنات فضائية.
لا حاجة إلى التعكز على حقيقة أن الفلسطينيين الذين اعترفوا بحق إسرائيل في الوجود، وفروا بأنفسهم غطاء لكل اعتراف مماثل. وكذلك الحال مع التفاوض، ومثله مع التطبيع. وهناك شعبان، يتصارعان، ولكنهما يتعايشان أيضا. أحدهما ظالم، والآخر مظلوم، هذا صحيح، ولكنهما لا يقيمان علاقات قتل على طول الخط. الآلاف من الفلسطينيين، يذهبون إلى العمل في إسرائيل، ويبنون بأيديهم المستوطنات التي تقام على أرضهم. هذا نوع من أوضاع القهر والظلم، إلا أن دافعه المعيشي البسيط يظل يفرض نفسه.
كل هذا لا يوفر تبريرا للتطبيع. التبرير الحقيقي، هو أن الاعتراف، الذي تجرد من كل الدوافع السابقة لإزالة إسرائيل من الوجود، هو الذي أوجد الحاجة لإطار ما من أطر التعايش.
والتعايش لا يعني القبول بالظلم. هذا شيء وذلك شيء آخر. تستطيع أن تحارب لإزالة الظلم. هذا حق مشروع وتكفله لك الشرائع. ولكن إذا لم تكن ترغب بإزالة الطرف الآخر من الوجود، فإن الحرب نفسها ستكون نوعا من التفاوض، مثلها مثل الانتفاضات، ومثلها مثل رمي الحجارة ضد قوات الاحتلال، ومثلها مثل البحث عن تسوية. هذه كلها حروب بأشكال أخرى.
الافتراض القائل إن التطبيع هو نوع من الاستسلام، افتراض سخيف بالفعل. إسرائيل دولة، والسودان دولة. ما الذي يجعل السودان أو البحرين أو الإمارات أو السعودية، تتخلى عن مكانتها كدول ذات سيادة، تقرر لنفسها بنفسها مصالحها، وتضع حدودا لما هو مناسب أو غير مناسب من أشكال العلاقات؟ هل سنبيع قمحا لإسرائيل مجانا، لأننا نُطبع؟ هذا لن يحصل. وإذا بعنا لها نفطا بسعر السوق، فلأنها مثل غيرها “سوق”. لا شيء يبرر الافتراض بأن العلاقات بين الدول تعني استسلاما أو استذلالا. مصر لم تفعل ذلك على امتداد أربعين عاما من التطبيع. ولا الأردن. ولن يفعلها أي أحد. هناك معايير. وهذه المعايير ليست خاصة بالعلاقة مع إسرائيل. إنها معايير خاصة للعلاقة بين كل الدول.
الافتراض بأن التطبيع “استسلام” يدل على مقدار هائل من عدم الثقة بالنفس. إنه تعبير عن ضعف دفين هو نفسه مخيف. عسكريا، مصر أقوى من إسرائيل، وتستطيع أن تغلبها في أي حرب. وفعلت ذلك، حتى عندما كانت إسرائيل تمتلك فائدة جغرافية كبرى، باحتلال سيناء ووجودها على الطرف الشرقي من قناة السويس. لا يوجد ضعف في العلاقة بين مصر وإسرائيل، ولا بأي معنى من المعاني.
البعبع لا يُخيف إلا الأطفال. والذين يخافون من إسرائيل بافتراض أنها بعبع، يمارسون السياسة بعقل طفل.
ولقد جربنا من “البعبعية” حدا جعل من مجرد الحديث مع أي إسرائيلي أو يهودي، يبدو وكأنه كارثة.
جانب من شعور الإسرائيليين بالتفوق والغطرسة، إنما يعود إلى تلك “البعبعية” التي صنعها الخائفون من البعبع. فعندما يمد لك إسرائيلي يده ويراك ترتجف، لا بد أنك تترك له شعورا بأنه كائن خرافي.
تستطيع أن ترفض المصافحة، مثلما يمكنك أن تفعل، كبشر، مع أي بشر آخر قد يعتدي عليك. ولكن ذلك لا يمنع من التحدث إليه إذا توفر ما يستوجب الحديث، ولا المصافحة إذا استوجبت اللياقة.
مقدار من الثقة بالنفس، يمكنه أن يجعلك أنت في وضع متفوق، لا الطرف الآخر. يكفي أن تعرف ما أنت عليه، لتعرف أن بلادك ليست ضعيفة، وشعبك ليس هزيلا، وتراثك ليس قشة في مهب الريح.
السودان، بتاريخه، وطبيعته الاجتماعية، وقيمه، وتوافقاته السياسية وديمقراطيته، سوف يظل هو نفسه، بتطبيع أو من دون تطبيع.
ما لا يُعقل، على الإطلاق، أن يتخذ بعضنا من التطبيع سببا للتخوين أو التجريم. هذا في أقل الأحوال، قلة أدب. لأنه اتهام قائم على سوء فهم، وعلى إساءة من دون مبرر، وتجريح قائم على افتراضات بليدة.
ما هو حقيقي هو أن الدول التي اختارت التطبيع لم تتخل عن دورها في الدفاع عن الحقوق الوطنية المشروعة للفلسطينيين. أما التخوين، الذي يأتي من المسؤولين الفلسطينيين، فهو يقصد شيئا واحدا، هو أنهم يريدون أن يستخدموا التطبيع كورقة في مفاوضاتهم مع إسرائيل. هم ليسوا ضد التطبيع من حيث المبدأ، وإنما ضد الورقة، عندما لا تكون بأيديهم. هذه هي كل القصة. لا أكثر ولا أقل.
لديهم أوراق أخرى كثيرة. لديهم شعبهم. لديهم القانون الدولي ومرجعياته. لديهم تضامن الأمة العربية كلها إذا انتفضوا ضد الاحتلال، إلا أنهم لا يريدون استخدامها، ولم يضعوا استراتيجيات لاستخدامها أصلا. إلا ورقة التطبيع، فهذه يجب أن تكون في الجيب، وإلا جازت فيك الشتائم.
للسلطة الفلسطينية الحق في أن تقرر مصالحها ومصالح شعبها من دون العودة إلى أحد. ولكن لا يحق لأي أحد، في العلاقة مع البعبع، أن يقرر مصالحه، إلا بالعودة إلى تلك السلطة. وما تلك إلا قسمة ضيزى.
التطبيع، على أي حال، ينهي حربا بالمعنى التقليدي، ليبدأ أخرى.
الحرب أداة لكسب الحقوق ولكنها ليست الخيار الوحيد الحرب أداة لكسب الحقوق ولكنها ليست الخيار الوحيد
يوم كنا نرفع شعار: كل شيء من أجل المعركة، كان المعنى من ذلك أن نستعد لخوض حرب عسكرية. فخسرناها وخسرنا كل الحروب الأخرى معها. خسرنا بناء الذات بالدرجة الأهم. خسرنا بناء القوة الاقتصادية، كما خسرنا القدرة على مواكبة العلم، وبقينا عاجزين أن نستوعب الحاجة إلى التحرر المعرفي، جنبا إلى جنب التحرر الاقتصادي. ومضى كثير من الوقت، لنفهم أن الحروب العسكرية لا تُكسب بالسلاح وحده، كما لا تُكسب بشرائه من الغير.
وبينما نحن ندفع من جلودنا ثمن كل سلاح، فإسرائيل تحصل عليه مجانا. هذه حرب خاسرة سلفا.
بالتخلي عن خيار الحرب بالسلاح، يبرز التطبيع كحرب من أجل استنهاض الذات. الاقتصاد من جهة والمعرفة من جهة أخرى. كسب هذه المعركة، أهم من تدمير 100 طائرة للعدو.
كن عاقلا وافهم: أهم من “قتل يهودي”، يجب أن تكون قادرا أنت نفسك على العيش. هذه ثقافة، وتلك ثقافة أخرى.
الحرب، أداة لكسب الحقوق. ولكنها ليست الخيار الوحيد. التسويات ممكنة عندما تتوفر الشروط. والشروط ليست دبابة مقابل دبابة. إنها كل المستلزمات الأخرى أيضا. ومحظوظ من يمتلك القدرة على الوقوف على ناصية الشروط الصحيحة.
التطبيع يمكن أن يضع نهاية لحرب خارج الأفق المنظور (آخرها كان قبل 47 عاما) لخوض حرب واجبة ضد الفقر والمرض والجهل، وضد كل أوجه الفشل الأخرى التي حولت إسرائيل إلى “قوة لا تُقهر”.
التطبيع، هو أن تكسب أرضا داخل إسرائيل بالتغلب على ثقافة الاستعداء والكراهية المتبادلة. وهو أن تتخلى عن ثقافة القتل وأدواته تلك التي لم تُثمر إلا التعثر والخسارة.
إسرائيل كيان قابل لإعادة التشكيل. تمعن في هذه الحقيقة، وسترى أنك لست بحاجة إلى حرب بالطائرات والدبابات والمدافع لكي تكسب سلاما عادلا ودائما وشاملا يحترم الحقوق ويمتثل لمقررات الشرعية الدولية.
إسرائيل لديها مشاكلها، مثلما أن لدينا مشاكلنا. التطبيع لا يحل هذه المشاكل، ولكنه يفتح الطريق لكي يلتفت كلٌّ إلى مشاكله. قيم العدالة والسلام والقانون سوف تكون هي المستفيد الأخير.
خضها ولا تخف. لا تتخل عن الحق. دافع عنه بشجاعة الواثق من نفسه. واجعل غريمك قادرا على أن يُصغي إليك. إسرائيل ليست بعبعا، والإسرائيليون ليسوا كائنات فضائية.
0 تعليقات