بهاء العوام
إعلان المفاوضات بين إسرائيل ولبنان يعكس قبول إيران بالشروط الأميركية الجديدة ومن أبرز هذه الشروط، وقف أي دولة عن ترهيب جوارها بالميليشيات ورفع وصاية الخمينيين عن سوريا ولبنان والعراق واليمن.
بين ليلة وضحاها تخلى فرسان “المقاومة” عن كل شيء
لم يكلف رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري نفسه بذكر أي شيء عن فلسطين وهو يعلن نية بلاده التفاوض مع إسرائيل لترسيم الحدود معها. رغم أن الترسيم يعني الاعتراف بدولة الاحتلال، وتوقيع اتفاق سلام معها. أو على الأقل توقف “المقاومة” عن التهديد برميها في البحر كلما خطب أحد فرسانها بأنصاره المصدقين بكذبتهم.
لم تخرج إيران ولا حزب الله ولا تركيا ولا قطر ولا جماعة الإخوان ولا السلطة الفلسطينية لتقول إن إعلان بري يمثل طعنة في ظهر القضية. مر الأمر وكأن لبنان سيفاوض صديقا أو جارا وليس العدو الذي تتنطح “المقاومة” بتهديده ليل نهار، وقد احتلت طهران أربع عواصم عربية بحجة محاربته وتحرير القدس من براثنه.
بري ومن خلفه حزب الله وإيران، لم يشترطوا على إسرائيل ترسيم حدودها مع فلسطين قبل ترسيم حدودها مع لبنان. لم يطالبوها بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، أو بوقف خططها لضم مناطق الضفة الغربية والأغوار، ولا حتى بإعادة هضبة الجولان السورية رغم أن نظام بشار الأسد “يقاتل” معهم في خندق واحد.
بين ليلة وضحاها تخلى فرسان “المقاومة” عن كل شيء. لم يعد هناك ما يحول دون السلام مع إسرائيل. ولا يوجد ما يمنع التفاوض معها برعاية “الشيطان الأكبر” الولايات المتحدة. وهو ذات الراعي الذي احتضن سلام دولتي الإمارات والبحرين مع تل أبيب، واعترض عليه مدعو “المقاومة” والمتاجرون بالقضية الفلسطينية.
مفاوضات ترسيم الحدود ستجريها الدولة اللبنانية بعد أن سمح لها حزب الله بالحديث عن نفسها. أبقاها رهينة سلاحه لسنوات طويلة بذريعة المقاومة، وعندما أراد إرضاء الولايات المتحدة سمح للرئاسة والجيش بالتفاوض مع إسرائيل. فيما أبقى الحكومة مكبلة حتى ينتهي الإيرانيون من التفاوض حولها مع الفرنسيين والأميركيين.
لم تكن خطوة بري مفاجئة. لقد مضى أكثر من عام على بدء ضغوطات الولايات المتحدة في هذا الاتجاه. الثنائي الشيعي راوغ في الأمر بقدر ما أرادت إيران من الوقت، ولكن يبدو أن حسابات الخمينيين في طهران قد تغيرت الآن. تبدلت المعادلات السياسية في المنطقة، ولا بد من التكيف مع هذه المتغيرات بمرونة وتنازلات أكثر.
مفاوضات لبنان مع إسرائيل هي حوار الثنائي الشيعي معها، وبدقة أكثر حوارهما نيابة عن طهران. بهذه الطريقة تفضل إيران التقرب من الولايات المتحدة. ترفض الجلوس معها على طاولة المفاوضات المباشرة، فيما تمد لها يد المحادثات السرية عبر قنوات عدة، ولا تمانع أبدا تقديم تنازلات جوهرية من خلال هذه القنوات.
يمكن قراءة المشهد بطريقة أخرى. حان الوقت لاستخدام إيران أوراقها في المنطقة للحوار مع أميركا. تبادر طهران بتقديم التنازلات عبر أذرعها وميليشياتها في المنطقة، وعندما ترد واشنطن الجميل تبدو طهران وكأنها خرجت منتصرة في معركة الحصار المفروض عليها. فهي لم تصافح ولم تفاوض ولم تستسلم أمام الكاميرات.
حتى لو كان الأمر كذلك، فقد أحسنت الإدارة الأميركية الحالية بالضغط على إيران حتى أجبرتها على إعادة النظر في عنجهيتها الجوفاء. لا يوجد تنازل يمكن أن تقدمه طهران أكبر من أن تدفع بحزب الله اللبناني إلى إبرام سلام مع إسرائيل، ومن ثم تسهل للأخيرة إبرام سلام مشابه مع “الأسود” في دمشق، وحركة حماس في غزة.
ثمة تسريبات تتحدث عن مشروع سلام بين النظام السوري وإسرائيل تتوسط فيه روسيا وتغض إيران الطرف عنه. عمليا لن يضيف هذا السلام شيئا للهدوء الذي تتمتع به جبهة الجولان. ولكنه سيدفع بالخمينيين أكثر نحو خيارين أحلاهما مر كما يقال، إما التفاوض مع الولايات المتحدة وإما تسليم مفاتيح بلادهم للصينيين والروس.
السلام الذي أبرمته الإمارات وإسرائيل هو من فتح الباب أمام تعدد الخيارات. هو من كسر استعصاء رفع هيمنة إيران على الشرق الأوسط وخلق إمكانية رسم خارطة جديدة للعلاقات بين دوله. لقد خطت الإمارات أول خطوة، والدول التي لحقتها أو تدرس اللحاق بها تدرك جيدا أن المنطقة مقبلة على تغييرات كبيرة لم تعرفها من قبل.
ولا شك أن إيران تستشعر المتغيرات المقبلة، ولن تقبل بألا تكون جزءا منها، أو أن تأتي على حساب مصالحها. لكن هذا يتطلب منها إعادة حساباتها ودراسة مستقبلها على أسس جديدة. وكأول خطوة في هذا السياق لا بد لنظام الخميني من مصارحة نفسه، والإجابة على أسئلة كبيرة آن أوان استحقاقها المؤجل أو المعلق.
من بين الأسئلة التي تلح على الخمينيين اليوم، هي كيف يمكنهم الاستمرار في حماية أذرعهم ووكلائهم في المنطقة؟ إلى أي مدى يمكنهم مواصلة هيمنتهم على العراق وسوريا ولبنان واليمن إذا ما فاز دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية؟ ما الذي يعنيه أن تبرم دول المنطقة الواحدة تلو الأخرى سلاما مع “عدوتهم” إسرائيل؟
يمكن للإيرانيين أن يدعوا التعفف عن المصالحة مع أميركا بقدر ما يشاؤون. ولكن الحقيقة أنهم يتوقون إليها أكثر من أي شيء آخر. المشكلة بالنسبة لهم أن ترامب لا يريد توزيع أي مكافآت على طهران نظير ضبط برامجها النووية والصاروخية. كما أنه وضع شروطا جديدة لتوزيع الأدوار وإبرام التحالفات في المنطقة.
إعلان المفاوضات بين إسرائيل ولبنان يعكس قبول إيران بالشروط الأميركية الجديدة. ومن أبرز هذه الشروط، وقف أي دولة عن ترهيب جوارها بالميليشيات المسلحة. رفع وصاية الخمينيين عن سوريا ولبنان والعراق واليمن. عدم استهداف المصالح الاقتصادية الدولية، والتعامل مع وجود أميركي دائم في الشرق الأوسط.
من بين الشروط أيضا أن يسقط تصنيف إسرائيل كعدو وحيد في المنطقة. فقوائم الأصدقاء والخصوم ستعد من الآن فصاعدا على أساس التحالفات والمصالح. لن تبقى إسرائيل شماعة الخمينيين لاحتلال دول عربية. ولا ورقة ابتزاز لشعوب المنطقة يستغلها أي طرف كان. وفق هذه الشروط أطلق لبنان مفاوضات ترسيم الحدود مع إسرائيل. وبهذه الشروط أبلغ وأفهم علنا كل من يسمع ويرى ويتكلم في المنطقة.
0 تعليقات