ثائرة اكرم العكيدي
من فوق عرش إحدى هذه الممالك الاسطورية ومن سفوح جبل ازمر في السليمانية جلست وحملت القلم السحري وأخذت أخط فوق لوح لازوج ابيض كلمات نبعت فى لحظات تسام وصفاء وابتهال، لحظات ترتفع فيها النفس وتنطلق مبحرة مقلعة عن ماديات هذه الارض ..
عندما يرحل العظماء تنقص الأرض من أطرافها، وتنطفئ منارة كبرى كانت ترسل إشعاعات خيرها ونورها في ربوع العالمين عندما يرحل العظماء تنفطر لذهابهم القلوب، لكونهم حماة الأمة وركنها الركين، وصمام أمن قيمها ومبادئها التي ترتفع بها إلى مصاف الأمم الخالدة ذات الإسهامات الكبرى في حياة البشرية.
من الصعب رثاء قامة كبرى كقامة مام جلال كما يسموه اخوننا الكرد ايالعم جلال والذي أفنى حياته في سبيل نصرة قضيته وإعلاء شأن شعبه وأمته.
جسدت حياة مام جلال كل أشكال القوة والعزم والصبر والثبات والصمود في وجه المحن والتحديات، فما إن يؤسس حزبا لإحياء قيم المجتمع الكردي في اواسط السبعينيات وما إن يحارب في اتجاه حتى ينشط ويجتهد في اتجاه آخر دون كلل أو ملل.. وهكذا في متوالية رائعة من الإصرار العجيب الذي تفاعل بين ضلوع شخصية فريدة لا تأبه بالباطل ..
تقتصر حياة الرئيس السابق جلال الطالباني رحمه الله على المواقف الصلبة والقدرات الفكرية والسياسية الباهرة، بل إن رجل الفكر والسياسة امتلك مرونة دبلوماسية مدهشة صقلتها المحن والخطوب والتجارب والخبرات، ليشكل شخصية بديعة ذات ملامح ومكونات متكاملة تُوّجت بكاريزما ذاتية وحضور لافت لا يختلف فيها احد.
لقد لعب دورا بارزا في تهدئة الأزمات بين العرب والأكراد في البلاد وتحسين العلاقات مع دول الجوار وكان العراقيون يطلقون عليه لقب صمام الأمان وكان انصار طالباني يرون أنه لا يخشى تغيير مساره السياسي عندما يرى فرصا أفضل، حتى لو أن البعض كانوا يوجهون له اتهامات التلون
كان مام جلال رحمه الله سياسيا محنكا ومفاوضا ماهرا وتمكن خلال سنوات حكمه منذ توليه الرئاسة في 2005 وإعادة انتخابه رئيسا في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2010 حتى إصابته بالمرض من مد جسور بين الأطراف المتناحرة في بلاده، ما ساهم في التخفيف من حدة التوترات وكان يحظى باحترام شرائح واسعة مختلفة من المجتمع العراقي.
لقد كان رجل دولة بامتياز متحمسا لمبادئ الديمقراطية، وكان حريصا على نشر السلام ونبذ الطائفية بين مكونات الشعب جميعا .
أن جلال الطلباني رحمه يُذكر بكل فخر بوصفه محاربا مقداماً من أجل الحقوق الكردية وضد ظلم الانظمة القمعية السابقة خلال فترة السبعينيات والثمانينيات والتسعينات، وسياسياً براغماتياً ورمزاً وطنياً لعراق جديد ساهم في إرساء الديمقراطية والفيدرالية فيه من خلال الدستور العراقي الحديث الذي شارك في إعداده، ليكون بعد ذلك أول رئيسٍ جديدٍ منتخبٍ ديمقراطياً في العراق.
لقد وضع الحقوق الكردية في صميم قلبه ويعمل جاهداً معظم حياته للمضي قدماً في هذا المسعى، كان على حد سواء وفياً لهويته العراقية وكفل المكان الصحيح للكرد في عراقٍ حر وموحد وديمقراطي.
حين نتحدث عن علاقة المرحوم جلال الطالباني بالقضية الكردية فنحن نتحدث عن علاقة عضوية عقدية مصيرية لا انفصام لها، وحالة من حالات التجذر العميق في الوعي الفكري والثقافي والسياسي الذي يتأسس على رؤية شمولية ذات آفاق رحبة تدرك أبعاد الصراع وحقيقة معاناة هذا الشعب وخاصة ابان حكم النظام السابق .
لم تصرفه تحديات الواقع الكردي القاسية يومًا عن قضية العراق فبعد السقوط سنة ٢٠٠٣ وبعد ان تشكلت الحكومة العراقية كان هو الرئيس المرشح لقيادة الدفة وكان هذا استحقاقه نظرا لخبرته الواسعة ونظرته الطويلة الابعاد، رغم كثافة التشابكات والتعقيدات ان ذاك لكن لانه كان ذو سلاسة وتفهم لما يحصل في البلاد ان اذاك من طائفية وقتل فقد كان من المؤيدين للسلام ونبذ الطائفية والعنصرية والدليل ان السليمانية منذ عهده للآن تعيش حالة سلام مع جميع القوميات والطوائف والاديان، فأهالي السليمانية يعتبرون مام جلال رحمه الله قدوتهم في التعايش السلمي مع الجميع فالدين لله والارض للجميع ..
عاشت القضية الكردية في روحه وعقله ووجدانه، فكان لها سندا وداعما وظهيرا ونصيرا أينما حل أو ارتحل، ولحنا شديّا تعزف حروفه وتطرب لأنغامه كافة قطاعات وشرائح الشعب الكردي.
لقد خسر الوطن رجل سياسى مخضرم ومخلص لوطنه تحامل على نفسه رغم مرضه من أجل مصلحة تلك البلد
رحل مام جلال وغاب عن مشهد الحياة بصمت من السليمانية، وانطوت صفحة جسده الهرِم، لكن فكره المبثوث في السليمانية وكافة أرجاء وربوع كوردستان ما زال متأججا يافعا يحمل الراية ويقود مسيرة السلام
لقد خسرت كوردستان برحيله الكثير فقد. فقدت رمزا من اوفى واصلب واعظم رموزها في العصر الحديث رمزا سيشهد له التاريخ في اسفاره المعاصرة بسبب السبق في تغيير وجهة كوردستان ومشهدها الثقافي والسياسي ومسارها الحضاري والانساني واعادتها الى قاطرة الحياة من جديد واعدة برمجة موقعها الطبيعي في الاعمار والبناء.
تحية اجلال واكبار لهذا الرجل الذي احبّ قضيته واحبّ شعبه وارضه وناضل وقاتل في سبيلهم ..ومن ليس له خير في اهله ليس له خيرا بالاخرين..
رحم الله روحك الطيبة ..
0 تعليقات