د . سامي الزيدي
منذ القديم وجنوب العراق بلد الحضارة السومرية والاكدية يعتقد كما هي شعوب العالم باهمية المقدس وتجلياته في الصورة المادية الارضية فهو لا ينفك ان يعيش تحت وطأة المقدس لكونه يشعر ان كل ما هو دون المطلق فهو مدنس وان المقدس وحده من يمتلك القدرة والولوج في داخل الانسان المخلوق الذي يجهل ذاته كما يجهل غيره ، وان لهذا المقدس القدرة على حل مشكلات الكون والحياة وحتى معالجة الامراض التي تسببها الارواح الشريرة التي كانت تهاجم البشر فتصيبهم بالامراض المختلفة بحسب تصوراتهم ، فكانوا يوعزون العذاب والكوارث والامراض الى غضب المقدس الذي يغضب للسلوكيات التي يقوم بها المدنس الارضي ، لذا اصبح من اللزوم عليهم ارضاء ذلك المقدس والتذلل له فكان تقديم القرابين والنذور والهدايا للمعابد هو ارشاء واضح لذلك المقدس كي يكف يده عنهم ويتحول الى هادئ بعد نوبة الغضب التي اصابته فأدت الى حدوث كوارث اصابت البشر بالبلاء .
لم يكن بمقدر الذهن ان يتصور ان المطلق ممكن ان يكون بعيدا عن الحس ومنزويا في زوايا العالم العلوي دون ان يتجلى في صور مادية تجعله قريبا من مخلوقاته التي يدير شؤونها بأوامر تصدر جراء الغضب والرضا ، لذا ظهرت تجليات المقدس واضحة في صور مادية متنوعة . فتارة يظهر في صخرة واخرى في شجرة وقد يرونه في كوكب من كواكب السماء او لعلهم يرون التجلي حاصلا في حيوان وهكذا .
لقد توارث العراقيون هذا التجلي القدسي وصاروا يؤمنون بوجود المقدس حاضرا دوما معهم لا يمكن ان يبتعد عنهم لذا كانوا يقدسون ما يعتقدون فيه شي من التجلي المطلق . ولم يكن هذا بعيدا عن التفكير المسيحي الذي كان يرى بان المسيح هو ابن الله وان روح الله نفخت فيه مما جعلهم يؤمنون بالثالوث المقدس ، ولعل هذه الفكرة لم تكن غائبة عن ذهنية العراقي الجنوبي الذي عاش قريبا من الاديرة المسيحية في الحيرة وكانت تلقي بتأثيراتها على ذهنيته المستعدة دائما لقبول فكرة التجلي .
وحتى بعد فكرة التوحيد التي اعتنقوها وآمنوا بها الا ان فكرة التجلي ظلت مترسبة في قاع الذهن العراقي الجنوبي وظلوا يبحثون عن بدلائل اخرى لصور التجلي لاتخرج عن مشروعيتها الايمانية واطارها الاسلامي، اذ دخل محيط المقدس جملة ممن كان ارضيا وصار في دائرة المقدس وخارج دائرة المدنس، واعطي الاخير صفة التجلي في الاشياء بدل من تجلي المطلق فيها ، فبدلا من ان يتجلى الاله في الاشياء المادية اصبح المقدس الارضي الذي التحق مؤخرا هو من يتجلى في الصور المادية وهو من تحل روحه فيها فينسحب المقدس عليها مما يجعل مساحة المقدس تتسع وتجلياته تكثر .
فتقديس الانبياء والاولياء والصالحين واضرحتهم وما يلمس تلك الاضرحة ويلتصق بها يجعل المقدس يتسع مكانا وتتكاثف صوره وتجلياته لتنسحب فيما بعد الى النسب واللباس وشكله ولونه .
فتجليات النبي بوصفه مقدسا ممكن ان تنسحب على من ينتسب له فيصبح مقدسا تقبل يده وينحني له ويقدم تكريما لقداسته وهو من له الشرف على غيره وهكذا . وقد تسمى الشجرة التي كانت بالامس يتجلى فيها المطلق الاله خارج الايمان الاسلامي ، بالشجرة المقدسة (العلوية) فتأخذ صبغة القداسة والتجلي الاسلامي ففيها تتجلى روح النبي او اهل بيته او انها شجرة لاحد احفاد النبي او من ينسب له فهي مقدسة باتساع دائرة المقدس . او ان بيتا او حجرا او قطعة من تراب او خرقة تصبح مقدسة اذا ما مسها احد الاولياء او انها دخلت في محيط قبره ، لان المعتقد بها يعتقد ان تجلي المقدس حل بها وان هذه القطعة من الحجر او القماش او التراب تمتلك القدرة على الشفاء وحل المشكلات او حتى المساعدة في اداء الامتحانات والحصول على اعلى النتائج .
وقد يلجأ بعض خدمة المراقد الى طلي مراقدهم بالحناء وصبغها بالالوان التي تهيئ الذهن الى تقبلها على انها مقدسه ووضع بعض اللواحات التي تدعي انها من الذين طلبوا حاجتهم من هذا المقدس فاستجاب لهم وقدم خدمته لهم بالمجان ، ومع ذلك يقوم اصحاب الحاجات بتقديم نذورهم وهداياهم لذلك المقام المقدس ، ولعله لا يختلف اليوم عن الامس في تجليات المقدس سوى تغيير العناوين فاذا كان المعبد هو المكان الذي يقدم فيه النذر وتقام فيه المراسيم والدعوات فأن اضرحة السادة في جنوب العراق اخذت تنوب عن تلك المعابد وفيها يتجلى المطلق وتسمع الادعية ويستجاب الطلب ، وما خدامها الى كما كان الكهنة سابقا فهم كانوا يقومون بنفس الاعمال التي يقوم بها خدمة المقامات في جنوب العراق .
لم يقتصر التقديس على الاموات فقد يقدس الاحياء ايضا بمجرد الانتساب وقد يقومون بواجباتهم القدسية اتجاه البشر الذين يعيشون في كنف قداستهم فهم يمسحون على الرؤوس ويبصقون على الالم وفي الماء لغرض الشفاء او يقرؤون بعض التعاويذ لطرد الارواح الشريرة من اجساد البشر كونهم يمتلكون القدرة على ذلك بوصفهم مقدسين في النسب وانهم يقعون في دائرة المقدس المتسع المساحة.
ان الترسبات الذهنية لا يمكن ان تغادر شعبا من الشعوب مهما بلغ من الثقافة ومهما جرت عليه من التحولات الاجتماعية والثقافية، كونها تبقى في قاع الذهن تصعد الى السطح متى وجدت ظرفها الملائم ، ولعل المشكلة هي في ان المقدس يتخذ صورا جديدة تلائم الظرف الذي يظهر فيه والظاهرة التي تحكمه وان تعليل ظهوره محكوما بحاجة المجتمع لذلك المقدس في ظروف يغيب فيها الوعي عن تفكيك الظاهرة وتصبح صورة المقدس حاضرة في الذهن تقفز من القاع الى السطح لتصبح ذات سلطة على حركة العقل في دائرة التجلي .
ولعل استبدال المطلق بتجلياته يعود الى المرجعيات الثقافية التي صورت المطلق في ذهنية المتلقي لها ، وجعلته صعب المنال ويحتاج الى مقدمات تحكم شروط الاتصال به ولعلها لا تتوفر بسهولة ، وفي المقابل من ذلك طرح المقدس الارضي كبديل متوفر على الدوام عن المقدس المطلق السماوي ، مما جعل الاتصال به سهلا والالتصاق بمقامه يمنح الهدوء ويحقق الرضا النفسي . وقد لا يكتفي بذلك انما يأخذ منه قطعة قماش او حجرا او ترابا توضع في الجيب او تشد بالذراع او تنقع بالماء لتكون حاضرة على الدوام ليس في الذهن فحسب بل حضورا ماديا متجليا .
0 تعليقات