محمد أبوالفضل
تأتي الأزمة من الشعور بضخامة التحديات التي تحيط بالدولة، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.
موقف واضح من التطبيع
منحت السيولة السياسية في المنطقة فرصة لمصر لترتيب جزء كبير من أوضاعها خلال السنوات الماضية، وبعد أن ظهرت تغيّرات تشير إلى اقتراب بلورة رؤى ومشروعات متماسكة، أصبح عليها التفكير في آليات التعامل معها.
في ظل انهماك الكثير من القوى الإقليمية والدولية في إعادة النظر في مواقفها من بعض القضايا، بات على القاهرة القيام بالمهمة ذاتها لتكون الانعكاسات المقبلة طفيفة.
تضفي موجة التطبيع بين دول عربية وإسرائيل جاذبية على التحولات المتوقعة، فمن المرجح أن تخلط حسابات مصر حيال القضية الفلسطينية، وقواعد التعاطي مع إسرائيل التي قامت على ثوابت جرى التكيف معها تاريخيا، وبصورة مكنت القاهرة من المحافظة على حظوظها في قلب مشاهد الحرب والسلام.
كما يسهم الاشتباك المتوقع من قبل الإدارة الأميركية برئاسة جو بايدن مع قضايا حيوية بالمنطقة في إحداث تغيير آخر، غير مستبعد أن يفرض على القاهرة تقديرات مختلفة عما خبرتها خلال فترة حكم الرئيس دونالد ترامب، وكانت مرضية لها في غالبية التفاصيل السياسية والأمنية.
تنشغل جهات مصرية حاليا بالتفكير في الوسائل المناسبة لتفادي الإفرازات السلبية لهذين التحولين، وربما تظهر تطورات ملحقة بهما، تتعلق بالموقف من إيران وتركيا، ومهما كان الشكل الذي سيتم اتخاذه معهما لن تكون القاهرة بعيدة عن التداعيات.
لا تزال مصر في مرحلة انتظار لما سيسفر عنه التوجه السريع نحو التطبيع، وما تقوم به واشنطن في المستقبل القريب من تحركات في الشرق الأوسط بعد رحيل إدارة ترامب، التي استفادت منها قوى إقليمية، وأعطتها مساحة للحركة عن قصد أو جهل.
لم تتكشف بعدُ الملامح النهائية للانخراط المصري في الطبعة الجديدة من سيناريو التطبيع، أو الرفض علنا، اتساقا مع هواية الحذر الزائد الذي تمارسه منذ فترة، وحماها بالفعل في بعض الأوقات من دفع ضريبة باهظة، ويمكن أن يصبح وبالا إذا تمّ التمادي في هذه السياسة من دون اعتبار لمحددات الزمان والمكان واللاعبين.
بدت الهواية السابقة مفهومة، بل مطلوبة، وقت أن كانت الدولة المصرية تلملم جراحها السياسية والأمنية، عقب أعوام من الارتباك رافقتها بموجب اندلاع ثورتي يناير 2011، ويونيو 2013.
وبعد أن تجاوزت حزمة من العقبات الوجودية، ونجحت في توفير درجة عالية من الاستقرار، وجرى تحديث الجيش المصري، وتطوير العلاقات مع قوى في الشرق والغرب، لم يعد ما يعرف بالتريث مجديا.
تحمل هذه المقومات معالم جيدة للإقدام وليس الإحجام، فالسيولة لن تستمر طويلا، وقد تكون القاهرة ضيّعت على نفسها أكثر من فرصة للاستفادة منها في الأعوام الثلاثة الماضية التي نهضت فيها من كبواتها المزمنة، ولاحت لها مؤشرات مواتية لتوسيع دورها الإقليمي، من خلال التصدي مبكرا لتركيا بأدوات حاسمة، كانت كفيلة بضمان التفوق على أنقرة في محطات مختلفة.
مصر إما أن يكون لها استعداد للاقتراب من قطار التطبيع وإما الرفض وتحمل العواقب. فالصيغة الباردة التي رضيت بها لم يعد لها مكان في خضم التطورات بين إسرائيل ودول عربية حليفة للقاهرة
لا أعلم كيف تستعدّ الحكومة المصرية لمواجهة التوسع في ملف التطبيع، ولا أعلم كيف ستواجه أجندة بايدن للشرق الأوسط، لكن أستطيع القول إن هناك تفكيرا جديا في الملفين، وتحسبا من نتائج كليْهما، لأن التأثيرات مباشرة، ولن يجدي معها حذر أو تريث وتستوجب جاهزية عالية، حيث تصطحب معها تغييرات تمس مركزية الدور.
إمّا أن يكون هناك استعداد للاقتراب إيجابا من قطار التطبيع الجديد بكل تبعاته وإمّا الرفض وتحمل العواقب، فالصيغة الباردة التي رضيت بها مصر لم يعد لها مكان في خضم التطورات المتسارعة بين إسرائيل ودول عربية حليفة للقاهرة، وإمكانية الرهان على سقوط الشراكات التي يقوم عليها التطبيع أو حتى تخريبه سياسيا غير مضمونة، لأن جزءا من مفرداته الأساسية له علاقة بملفات استراتيجية.
حسب الفهم العام للسياسة المصرية يعدّ التخلف عن التطبيع في صيغته الجديدة هو الأقرب للتحقق، لأن القاهرة التي ظلت تقاوم التبعية في بعض القضايا الإقليمية وحرصت على تبني رؤى نابعة من مصالحها، لن تقبل المشاركة في مشروع يضعها في كفة واحدة مع إسرائيل، وهي في التفكير الجمعي عدوّ رئيسي للدولة المصرية.
مكمن الخطورة يأتي من عدم استبعاد أن يمضي القطار دون مشاركة القاهرة، ومن هنا سوف تتأثر علاقتها بالدول المنضمّة إلى عملية التطبيع حديثا، والتي تمثل كتلة يمكن أن تؤثر سلبا على دور المحور الذي صارت مصر جزءا منه في المنطقة.
ومكمن الحيرة أن القاهرة لن تستطيع التوافق مع المحور المقابل، الذي يضمّ إيران وتركيا وقطر، والخصومة مع هذه الدول متباينة، لكن من الصعب أن تتحول إلى تفاهم بعيد المدى، لأن تكاليف خطوة من هذا النوع باهظة سياسيا، ولا تنسجم مع الخط العام.
تأتي الأزمة من الشعور بضخامة التحديات التي تحيط بالدولة، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، الأمر الذي تراه دوائر سياسية يكفي لكبح حضور القاهرة الإقليمي، فلا يمكن ممارسة دور فاعل في خضم مشكلات تهدّد الأمن القومي في مفاصله العريضة.
نجحت هذه المعادلة في توفير نجاة مؤقتة لمصر، وحمتها من الدخول في أزمات دقيقة، إلّا أن حصيلتها لم تبعد الأخطار عنها تماما، فالتحالفات التي نسجت مع دول عربية وأجنبية ربما تصاب في مقتل مع النتائج غير المتوقعة التي تجلبها التحولات المنتظرة في المنطقة.
قد يكون ما يتردد عن انفتاح سعودي على كل من تركيا وإسرائيل، مؤشرا على التغيرات المنتظرة ويتطلب من القاهرة التفكير جيدا في ارتداداته، ناهيك عن المراوحة التي تشهدها العلاقات مع دول كثيرة، وهي في جزء منها تقوم على تبادل المصالح، بمعنى أن الحصول عليها أو تلبيتها من قبل دولة أخرى يمكن أن يقلب الطاولة.
حققت القاهرة تمددا سياسيا مهمّا مع دول عديدة، لكن في خضم المشروعات سوف يتعرض إلى اهتزازات ما لم يكن مصحوبا بأدوات تثبته على الأرض، أو رؤية تتخلى عبرها مصر عن الهدوء المتكرر، الذي يجري تفسيره أحيانا على أنه ارتباك مزمن.
يحلّ تبني رؤية إقليمية واضحة الكثير من المشكلات التي يمكن أن تواجهها مصر من وراء الانتظار والرهان على إخفاقات الخصوم والمنافسين، فمع إخماد بعض الصراعات أو إشعال أخرى سوف تتغير الخارطة الحالية، التي شيدت القاهرة عليها جانبا كبيرا من حساباتها، لذلك هي في مرمى التحوّلات الإقليمية شاءت أم أبت.
0 تعليقات