من رسائل الأدباء

مشاهدات



رباح آل جعفر


خلّصني أيها الرجل، من التكفّف، أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضُّر، اشترني بالإحسان، اعتبدني بالشكر، اكفني مؤونة الغَداء والعَشاء. إلى متى الكُسَيرة اليابسة، والبُقَيْلة الذاوية، والقميص المرقَّع”؟!.

?هذا الخطاب القاسي المؤلم لمفكر عربي عظيم هو أبو حيان التوحيدي فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، يشكو بؤسه وفقره وسوء حظه إلى صديقه أبي الوفاء، ويرجوه أن يأخذه إلى مجلس الوزير البويهي أبي عبد الله العارض، فربما يرقّ في نفسه إذا رآه ويعطف على حاله.

وحدث أن حضر التوحيدي مجلس الوزير سبعاً وثلاثين ليلة جمعها في كتاب “الإمتاع والمؤانسة” وفي آخر هذا الكتاب تقرأ رسائل للتوحيدي يتوسّل فيها ذلك الوزير ويقبّل التراب تحت قدميه أن يعطف على حاله، ويقول إنه مستعد لأي شيء يفعله من أجل مرضاته، أن يبيع الدين والمروءة، ويتعاطى الرياء والنفاق.. أي شيء لمجرد أن ينتشله بما يلقى من الهوان.

وتقرأ مع الأسف، في كثير من رسائل الأدباء الاستجداء والذل والتسول وفقدان الكرامة. هذا هو الشاعر بدر شاكر السيّاب يكتب رسالة إلى الشاعر اللبناني يوسف الخال يخبره فيها: “إنني في فقر مريع. إنني مفلس. قاتل الله الشعر لأنه لا يشبع من جوع ولا يكسي من عري”!.

وتصاب بخيبة وأنت تقرأ رسائل الشاعر معروف الرصافي إلى أحد أعيان بغداد مظهر الشاوي، فإنها تختصر مأساة شاعر كان يسكن في دار بائس يجاور المبغى تستعمله “العاهرات” في كثير من الأحيان.. إنه يريد أن يعيش بأية طريقة بعدما بلغت به الحاجة مداها وتنكّر له كل من حوله من الناس، حتى قرر أن يجري الشاوي راتبا بسيطاً يعين الرصافي على الدنيا.

لكن اكثر رسالة مريرة قرأتها في حياتي وأحزنتني من القلب وأوجعتني كانت رسالة الأستاذ عباس محمود العقاد، التي يتسول فيها من صديقه “محمد لطفي جمعة” مساعدة من المال، يقول في سطورها:

أبثكم تحياتي وأشواقي. وبعد فأذكر أني سمعت منكم يوم لقيتكم أنكم تسرون بتقديم المساعدة إليّ عند الحاجة إليها، ولقد سمعت هذا الكلام من كثير غيركم، فما خطر لي أني سألجأ يوماً إليهم أو أقول شيئاً عليهم، ولكني فهمت من كلمتكم غير ما فهمت من كلماتهم، وبعثت إليكم بهذا الخطاب لأقول لكم إني في حاجة إلى تلك المساعدة، بل لا أظن أن هناك شيئاً مما يحتاجه الحي في حياته، لست أنا في أشد الحاجة إليه الآن، وكفى بذلك تصريحاً وإيضاحاً.. فإن كانت مساعدتي في وسعكم، فأنا أنتظرها منكم اليوم”!.

وفي التراث العربي كانوا يقولون لمن لا يرى من أدبه كفافاً من العيش “أدركته حرفة الأدب” ومن هؤلاء الأدباء النحوي الموسوعي أبو هلال العسكري فقد كان يرتدي الثياب الجميلة حتى لا يُقال إنه فقير.. وهو القائل عن نفسه:

جُلُوسي في سوقٍ أبيع وأشتري

دليـــــلٌ علــى أن الأنــــامَ قرودُ

ولا خيرَ في قــومٍ تُذلُ كرامــهم

ويعظُـمُ فيهــــا نذلُـهم ويســودُ

هل أقول صدقت أيها الأديب؟

نعم.. لقد صدقت!.

إرسال تعليق

0 تعليقات