فائزة محمد علي فدعم
عرضت السفارة المصرية بالعراق في فترة الستينيات سيارة نوع (مرسيدس بنز ديزل) للبيع . كانت مخصصة الى السفير وهو السيد محمد توفيق العجوز فاشتراها والدي بخمسة آلاف وخمسمائة دينار وهذا المبلغ كبير في حينها لأنه اشترى بمثله دارين في نفس الفترة . الاول يعود الى عائلة الست احلام سرسب الواقع على الشارع العام وهو الان دكاكين مقابل دار السيد كريم الحسك والاخرى سكنته العائلة بعد تعديل نهر خريسان ثم اهداه لي والدي رحمه الله وسكنته بعد وفاته حتى الان ولي فيه ما يقارب الاربع وخمسون عاما . والعائلة انتقلت الى بيت اخر .
كانت تلك المرحلة بالنسبة لي هي العصر الذهبي فقد ملكت الثروة والصبا والرفقة الحسنة والنزهات المُمتعة . كان والدي معجب برجل يدعى (ابو داود) يأتمنه على كل شيء وهو بمثابة اخ كبير لنا نحترمه ونحبه ويعتبر السائق الخاص للعائلة . وعند السفر الى اي مكان نقوم بأخباره ليلاً ويأتي صباحاً على الموعد ... كان لي صديقات مفضلات منهن الست (سعاد رشيد توفيق دبدب) والست ام احمد وزوجة الدكتور اسكندر وام عمر وكنا نذهب الى مدينة الالعاب لنشاهد السرك البلغاري ( الذي كان يقدم عروضه وقتها في بغداد) ونرى حيواناتهم والعابهم الخطرة حتى اننا نشعر كأن الدم يتجمد في عروقنا احيانا لأننا حديثي العهد برؤية هذه الاشياء وقد كنا نراها في التلفاز فقط وعند انتهاء العرض نتنفس الصعداء من شدة الخوف .
وعند الخروج نذهب في سفرة نهرية كان مطربها في حينها يدعى (احمد سلمان) ننزل من العوامة ونشتري الشامية وشَعَر البنات (غزل البنات) والسندويشات بأنواعها وبعد هذا اليوم الجميل نعود بعد الغروب الى بعقوبة . كان الوالد في بعض الاحيان يأخذني الى بغداد لأتبضع كون مطالبي كثيرة وكانت ترافقني بعض صديقاتي حسب رغبتهنَّ نتواعد معهُ على وقت عودتنا بعد إيصالنا الى شارع النهر لأنهُ كان المُفضل والرائج آنذاك ثم يذهب وقريبهُ السيد فائق البندر الى قهوة حسن عجمي لقضاء الوقت بانتظار ان ننتهي من التسوق .
لم نكن نكلُ او نَمَل ونحن نقضي وقتنا سيرا على الاقدام الى شارع الرشيد وحافظ القاضي وكل مكان للتنزه ونذهب الى الكوافير الذي كان يملكه السيد مالك وآخر يعود الى فامينا وبعد الانتهاء نذهب لشراء الاحذية من محلات ريو وحرّاق او الافراح للألبسة النسائية . ثم حلويات الحاج جواد الشكرجي والسيد السامرائي وأحياناً الى الشورجة وعلى ما اظن كان فيها كنيسة تزورها السيدة فائزة زوجة الدكتور اسكندر وتأخذ معها اقمشة مطرزة بالصليب لوضعها على المذبح . كنا نرى من بعيد عمارة دائرة الضمان الاجتماعي التي كانت تقريبًا مدورة الشكل وامامها عدد من العربات التي تبيع شوربة العدس مع الجشج وهي وجبة الفطور التي يتناولها الكسبة والعمال في حينها وبعض رواد الفنادق البسيطة وكل واحد منهم يفترش الارض مع صحنه او يتناوله وقوفا وبيده رغيف الخبر وبعض الاوقات نذهب الى سوق السراي وقد اعجبت بكتاب غلافه مُمزق اجهل عنوانه حتى الان وهو يتحدث عن فتاة اسمها حنا الشمسية تدور قصتها في القرون الوسطى والكنائس ونهايتها لم استطع اكمالها لأنها تالفة للأسف ( اتمنى ان يعرف احد اسم هذا الكتاب ويخبرني به ) ثم نذهب لنأكل كبة السراي الشهيرة وعندما نتعب نذهب الى والدي لنعود ...
وبعد فترة قصيرة قلت لوالدي اريد ان اذهب الى المصور ( ارشاك ) فرد علي قائلا (استغفر الله) وهي جملته الشهيرة التي كان يقولها عندما تكثر طلباتي ولكنه اصطحبنا مع صديقاتي الى الاستوديو وعند دخولنا شاهدنا ان اكثر الصور كانت بالأبيض والاسود او بنية اللون وهي للعديد من العوائل المعروفة وصور العرسان والعائلة المالكة والوزراء وغيرهم .
كان ارشاك رجل متوسط العمر وقد رحب بنا والتقط لنا الصورة التي لازلت احتفظ بها حتى الان . كنا نذهب الى بغداد كل اسبوع او اسبوعين وحسب اشغال الوالد وتفرغهُ وفي احدى المرات اصرَّت احدى صديقاتي ان تدعونا الى الطعام لان والدي في كل مرة كان هو الذي يدفع الحساب وفعلا تركناه على امل اللقاء به بعد الظهر عند انتهاء اعماله وبينما نحن نسير الى مكان العزومة المقترحة لفت نظري سقف المَمَر ( الدربونة ) الذي كان عاليا للغاية ومغطى بالجملون . كانت عبارة عن تجمع لعدة مطاعم بسيطة تحتوي على كراسي خشبية وأرائك مفروشة بحصير الخيزران اللماعة واكثر ما جلب انتباهي انواع الاسماك المقلية في عربات على قارعة الطريق وقد سألت احدى صديقاتي عن نوعه فقالت ( الجري ) يقوم البائع بقليه في زيت وسط العربة وتحته تشتعل نار الموقد ويوضع بعدها في صينية مرتبة كأنها زقورة لونها ذهبي . وايضا هناك بائع العِرق سوس والبلنكو وقد اقترحت رفيقتي مطعم قالت ان والدتي تزوره منذ فترة لان طعامه لذيذ جدا فدخلنا اليه وقد كان بسيطاً واجهته على الشارع وجاء النادل فوضع الماء والطرشي والشلغم والبصل والرشاد والطمامة والنارنج ونحن بانتظار الكباب ولكن بعد دقائق توقفت سيارة الشرطة وترجل منها رجلين خاطبوا صاحب المطعم بهدوء وهم يضعون القيد في يديه وقال له احدهم :
يا ظالم الا تخشى الله ؟
انا وصديقاتي كنا نتصبب عرقا من شدة الخوف ثم اكمل قوله منذ متى وانت تطعم زبائنك لحم الحمير ؟
حينئذ ساد الوجوم على وجوه الحاضرين وذابت صديقتي صاحبة العزومة خجلاً .
وهذه هي نهاية احدى صفحات حياتي ...
0 تعليقات