رباح آل جعفر
إذا كان الشاعر الإيطالي دانتي كتب فصلاً عن “الجحيم” في ملحمته الخالدة “الكوميديا الإلهية” فهنالك أحد الجنود الألمان في الحرب العالمية الثانية أوصى أن يكتبوا على شاهدة قبره هذه العبارة:
إلهي لقد خدمتُ قبل الآن في الجحيم!.
لقد فكرت وأنا أكتب هذا المقال بالسؤال: ماذا لو أكل سواد الحقد قلوب أهل النار فجمعوا سلاسلهم وأغلالهم وقيودهم وهجموا على أهل الجنة؟!.
العراق ليس هو الجنة. لكن كتب الأساطير تقول: إن الجنة في العراق!.
وإذا كان الجحيم هو الآخرون فى رأي الفيلسوف الفرنسي سارتر فماذا يقول عن هذه الشوارع التي تغلي تحت أقدامنا من شدة الجحيم؟!.
وفي الأيام الأخيرة من حياته كان عميد الأدب العربي طه حسين يقول بدعابته: إذا دخل عباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم الجنة، فإني سأذهب إلى جهنم حتى لا نختلف هناك نحن الثلاثة!.
وأذكر مرة، أصابت الشيخ جلال الحنفي حمّى شديدة. وذهبت أعوده في جامع الخلفاء، ووجدته على غير عادته، متأثراً مهموماً، واستقبلني بالمثل البغدادي: “من شؤم حظي تجيني النائبات أرداف”!.
وسألته عن نوع هذه النائبات؟ فقال بلهجته الساخرة: إن أحدنا لو قام في هذه الساعة من قيلولة الصيف، ووضع عجيناً على الحائط لرآه يتحول إلى رغيف خبز من شدة الحر!.
وأعرف كثيرين كانوا لا يقيلون ظهيرة الصيف، ولا يهوون إلى قرارة النوم، ولا يداعب عيونهم الوسن.. وأستاذنا الفيلسوف مدني صالح كان يمشي كثيراً أيام الصيف، ويمشي طويلاً مسرعاً. وكان يقول لي: إنه يجد في هذا الحرّ متعته من الحياة. وإنه يقف تحت الشمس في صيف تموز ساعات كاملة فيبتسم!.
غريبة!. نعم.. لكن هذا ما حدث بالفعل. وفي قيلولة صيف تلفح الوجوه، وكانت الدنيا فصلاً من جحيم دانتي. كنت أضبط موعدي مع صديقنا الكاتب الممتع عبد المجيد الشاوي، فأجده يستظل تحت شجرة يوكالبتوس في الصالحية، مثل جنرال يعلمنا الانضباط في احترام المواعيد.
وفي كل مرة كان الشاوي يروي لي حكاية طريفة عن أحد ولاة بغداد. فعندما اشتكى الوالي إلى مستشاريه من شدة الحرّ، قالوا له: إنه يشوي التمر!. قال: إذن، قصّوا النخل!.
وإذا كانت درجة حرارة الشمس تبلغ 15 مليون درجة مئوية كما يقول العلماء.. فكم تبلغ درجة حرارة جهنم؟!. آمنتُ بالله.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن سنوات بعيدة كانت فرحتنا بحرّ تموز أعظم مليون مرة من فرحتنا ببرد الكوانين. كنّا نستعجل قدوم الصيف حتى نسبح في الشطآن وعلى الأجراف، نسبح مع المجرى وضد التيار وتحت الماء، ونحن نتقن جميع فنون السباحة!. ونحن ما نزال في تموز، فكيف بآب اللهّاب وبأيلول والمثل الشعبي يقول: “رحم الله آب.. قتلنا أيلول في حرّه” وابن المعتز يتندر ساخراً:
أحرقنـا أيلـول فـي نـاره
فـرحمــةُ الله علــى آبِ
ولا من نسيمات غضة باردة تنفذ خلسة إلى أعماق الحنايا، فتنعش الروح والجسد، أو رشفة ماء نبلّ بها الريق من ذلك العذب النمير!.
اللهم إنّي أعوذ بك من عذاب هذا الصيف ومن عذاب جهنم.
0 تعليقات