د . سامي الزيدي
اُختزِل التاريخ العربي بتاريخ الاسلام وتداخلت فيه الكثير من القوميات لصناعة تاريخ ظل على الدوام يأخذ نمطين من الخطاب والقراءة . فالتراث الاسلامي تراث تراكمي تمت صناعته عبر قنوات من الايدولوجيات ليصل محملا بالكثير من التشوهات التي تحتاج الى النقد والتحليل في مختبرات عقلية غير مؤدلجة ولا تخضع الى تحويل ماهو بشري الى مقدس عبر مراحل تراكمية معرفية جعلته خاضعا دون شعور الى تنميط التراث على ضوء معيار( معي او ضدي) فالمعي مقدس بشخوصه وحركتهم التي تقترب من المتعالي والمطلق ولا تخضع لنقد او تجريح . والضدي بشري مدنس يتسافل بشخوصه وحركتهم التاريخية وكل مافيه مجروح مطعون فيه متهم .
هذا التاريخ الذي اصبح يفرض علينا حتى على المستوى الاكاديمي اذ ان الباحثين منمطين على ضوء ما ذكرنا من المعيار ، فليس من حقك ان تغادر المعي لانك سوف تكون ضدي ، فالموضوعية لم تعد مقبولة في ضوء المنهج الذي يتداول في دراسة تاريخ الاسلام . وهنا يقع الباحث الموضوعي في حرج من الاطراف جميعا لانه ليس مع او ضد فالجميع يحسبه ضد لانه يبتعد عن الاطراف الى الوسط فالجميع يحسبه مع الاخر مع انه ليس مع احد بقدر ما يبحث عن الحقيقة التي تقع في جوهرها بعيد عن الاطراف فهي تحتاج الى ازاحة الركام من خلال النقد الحقيقي الذي يجعل الظاهرة البشرية قابلة للخطأ والتصويب، وغير متعالية ولا مطلقة، فلا يوجد بشري مقدس ، وكل ما هو اجتماعي لابد ان يكشف عنه، ولا يتعالى بشري على النقد لانه ضمن حركة التاريخ .
المصيبة الكبرى ان اؤلئك الذين ينمطون التاريخ على ضوء منهج معي او ضدي يتحكمون في تقييم الابحاث العلمية ويصنفون الباحثين الموضوعيين بوصفهم خارجين عن العقيدة وعلمانيين ولا يمنحونهم الفرصة للنقد واظهار لحقيقة . والحقيقة الوحيدة في مفهومهم هي (ان الاخر متسافل وانا متعالي) .
لا يوجد لا ما ندر من يتعامل في دراسة التاريخ الاسلامي مع منهج البحث العلمي اذا نرى الاغلبية ينساق وراء منهج البحث المتعالي الذي يجعل من رواياته وحكاياته وان كانت مصنوعة ومتخيلة داخل دائرة الحصانة من النقد ، ولا يسمح بمناقشتها ونقدها ، اذا ان الكثير من الروايات خارج مفهوم الوعي البشري -- بحسب ظنهم -- وتدخل في ما هو غيبي عصي على الادراك وفهم المقصد وان الولوج في نقدها يعرض الناقد لدخول المحظور . اما الروايات الاخرى فهي مشوهة لكونها ذات مقاصد تريد النيل من كل ماهو مقدس ومتعالي ومطلق ، وهي بشرية متهمة وخبيثة ، فالتأويل حاضر باستمرار كوسيلة من وسائل الدفاع والهجوم .
ان اصطلاحنا على هذا المنهج بالمتعالي لكونه يرى نفسه فوق الشبهات وان ما عنده يقترب من المتعالي المطلق وان الاخر يتآمر عليه لكونه بشري مدنس ، حسود ومادي ويسعى نحو الدنيويات ، اغرته السلطة فأنزلق نحوها غير آبه بالمبادئ والقيم ، غاصب للحق ومتجاوز على الشريعة . هذا من جانب ، ومن جانب ينظر المتعالي الاخر الى ان الاخر مفرق ممزق للجماعة يسعى الى تمزيق الامة محتال على النصوص متأثر بافكار الزنادقة والاعداء يكيل التهم جزافا ويحاول اغتنام الفرصة للنيل من الامة وتحطيم قدراتها فهو اداة بيد العدو .
ولكي نعيد قراءة تراثنا بجدية يجب ان لا نتعالى على الاحداث ونجعلها كلها تحت مجهر النقد لنكشف عنها ونبين حقيقتها ، فالتاريخ بكل حوادثه وشخوصه قابل للنقد والتفكيك ، لاتوجد حصانة لشخص ولا لموقف ، فالجميع متهم ومشكك فيه فعلى حد قول اركون ( لايوجد خطاب بريئ ) فالتمزق الحقيقي هو ما يقوم به الباحثين من تكريس منهج البحث المتعالي الذي يقسّم التراث الاسلامي الى معي وضدي مع انه كتب جملة واحدة تحتاج الى قراءة وبحث بموضوعية وصدق دون تحيز وانجرار وراء الاهواء والانتماء الطائفي والقومي والحزبي . لان البحث امانة والحقيقة مطلب الجميع والباحث يتطلب منه الامانة والموضوعية .
0 تعليقات