علي الجنابي
كان المساءُ الأخير من سفرةٍ ليَ الى “إستانبول”، وتلك مدينةٌ يُعقد إرتباطها من سحرِ وعفَّةِ شرقٍ خجولٍ، ويوقدُ إنضباطها من نحر وضفّةِ غربٍ مجبول.
مدينةٌ أزقتُها أوحت ليَ من نظرةٍ أولى وبفضول، بأنّ الإسلامَ هو سيدٌ للشرقِ وللغربِ، ولا سيّدَ خلاه لو إستقمنا على الطريقة والتزمنا الأصول، وصمنا عن وحلِ كلَّ فكرٍ مرتجفٍ مشلول، وما حُمنا حولَ مدارج النغمِ والترنّحِ، وما نُمنا على نقر الأوتار والطبول.
في ذاك المساء، وحيث طائرتي تقلعُ في الثالثة ليلاً الى بغدادَ في موعدٍ مأمول، تناثرَ رفقاءُ رحلتي لتجوال ختاميٍّ في إستانبول. تجوالٌ دامَ حتى الواحدة ليلاً ، وبِنهَمٍ منهم هائمٍ ومخبول! ولهم الحقُّ، فما رأت أعينُهم خارج ديارهم من قبلُ مدينةً سوى “إستانبول”.
بيد أني إرتأيتُ إعتكافَ صمتٍ في مقهى الفندق، فالنفسُ ماإنفكّت تواقةً لما في واحةِ الصمت من نضرةٍ وحلول.
صُمِّمَ المقهى فوقَ سطحِ الفندقِ بإبداعٍ هندسيٍّ ذوّاقٍ ملموسٍ ومبذول، وعلى هيئة زجاجةٍ مربعةٍ، لتلهوَ الأفئدة في بطنها و لتسهوَ العقول، حينَ جعلوهُ يطلّ على ذانك المضيق ويعانق جسره المُعلَّق بحبلٍ مفتول.
البالُ والحالُ كانا متكئينِ إلى الخلف مسترخيين على بارِ في المقهى ذي علّوٍ وآسرٍ وغير مأهول، ثم دَنَت فَخِذاي على بعضٍ ليمتطيَ الفخذُ أخيه الفخذ بتذللٍ محمول، وتدلّتِ الأطراف تتمايلُ على هونٍ ،كرقصةٍ في بندولٍ.
النسماتُ هنا بنكهةٍ ربيعٍ بديعٍ، والصمتُ طيبٌ مُكَرَّمٌ هنا، والنطقُ عيبٌ ومٌحَرَّمُ ومعلول.
إعتكفت مُتَسَمِّراً في مقعدي عصراً حتى الواحدة ليلا بفكرٍ عما حواليه ناءٍ ومفصول، كتمثالِ نحاسٍ شاخصٍ ببصرهِ صوب بحرٍ فضيٍّ صامتٍ مصقول، ومسترجعاً خطىً لسنين عمرٍ لاهثةً، وكانت أيامُهُ لاهيةً وتصول. إستجلبتُ كل الخطى:
حلوَها ومرّها، ثقيلَها وخفيفها, الطاهرَ منها والملوّثَ والمغسول .
كم كانتِ الذّاتُ بحاجةٍ لخلوةِ غسولٍ في فضاءٍ صامتٍ خافتٍ معزول، لتجنيَ نقاءَ فكرٍ ماكانت لتقطفَ ثمارَهُ من قراطيسَ قَرَأتهُ بتأفّفٍ أو بخمول، ولا من وعظٍ سَمِعَتهُ من عِمامةٍ بتآلفٍ أو بذبول.
كانت الخلوةُ نادرةً، وما خُطِّطَ لها، وماكنتُ لأحلم بمثلِها أن أنول، فالمقهى خلا من كلِّ زبونٍ إلا أيايَّ، وبحراً صامتاً وشجراً يغفو على تلول، وكأنَّ البحرَ والشجرَ شعروا بحاجتي لصمتٍ مُقفَلٍ فمنعوا سواي الى المقهى من دخول. ثمَّ.
شانَ الصمتُ ولوجُ سيّاحٍ (ألمانٍ) الى المقهى وبانَ على صمتيَ الأفول.
كان ولوجُهم (رجلانِ ومثلِهما نساء) ولوجاً غير مُرَحّبٍ ولا مأمول، كأنّهُ قهرٌ أطاحَ بتغريداتِ صمتي، ففرَّت شطرَ ماحولها من حقول.
حزنتُ وخشيتٌ من ولوجهم على صمتي أن يتلاشى أو يحول.
إختارَوا مائدةً لعشائِهم أسفلَ مني بذراعٍ أو يطول، وحيث كانت منصتي تعلُوهم، ولعلّها قد تقيني مما في لغوِهم من سيول.
توجستُ منهم أن يسألوني حديثَ مجاملاتٍ مكررٍ مهمول، ولم أكُ مستعداً لتشكيلِ حديثٍ مستهلكٍ جاهزٍ معسول، ولا لإجهدَ فكري في ليِّ مفرداتٍ (إنجليزية) إرضاءً لهم أو لكائن من كان في صمتيَ المقتول.
أعلمُ بإبتعادِ الألمان خاصةً عن كل إحتكاكٍ مع الغيرِ مبتذلٍ موصول، فإن همُ تواصلوا ، إلتزموا أدبَ الذوق في تواصلٍ مهذبٍ مغزول.
كان القومُ يتنازعونَ حديثَهم بينهم بهمسٍ متأنٍ غير عجول.
تناسيتُهم إلا من نظرةٍ خاطفةٍ أو إثنتين أُختلسَتهما بفضول.
لعلهم فعلوا أكثر منهُما، وربما نظراتهم غزتني كل حينٍ كرسول.
رقّاصُ ساعتيَ الآن أراهُ يتراقصُ ضاحكاً على التاسعة مساءً، ومنهمكاً بسرقتهِ لدقائقِ للزمان كلصٍّ مُحترِفٍ ومشغول.
دفعَ الألمانُ حسابَهم، فنهضوا فأقبلوا إليَّ جميعا بتجحفلٍ محفول، نحو منصتي لينحنيَ بين يديّ كبيرُهم -وزوجُهُ تردفُهُ- بتحيةٍ مبالغٍ فيها بإمتنانٍ وبِودٍّ معمول!
أومات براسي ردَّاً لركوعهم بإبتسامةٍ وبوجهٍ أليفٍ مؤتلفٍ غير مجهول.
أبداً..
أنا ما فوجئتُ بتحيتِهم، ولقد تنبأتُ متيقناً أنهم فاعلوها بإعتزازٍ منهم وذهول.
ولكن لمَ وكيفَ تنبأتُ أنهم فاعلوها، ولِمَ فعلوها؟
لا أدري وعجزَ فكري أن يَبينَ الأمرَ ،وحجزَ ذكري عن ذاكَ السرِّ أن يقول.
لعلّه لسانُ الصَمتِ في إستانبول؟
ربما ذاك هو ما يُدعى بين الناسِ (الصمتُ الناطق) المأمول؟
ربّما؟
0 تعليقات