د. باهرة الشيخلي
ما جرى في مدينة العمارة، مركز محافظة ميسان العراقية، وما جرى في الفلوجة من زحف لفصائل ميليشياوية ولائية لتهديد أمنها واستقرارها هو إشارة واضحة إلى أن إيران تزرع الألغام في طريق مقتدى الصدر لمنعه من تشكيل حكومة أغلبية وطنية يكون موالوها بعيدين عنها ولا يملكون فيها مناصب مؤثرة.
زحف كتائب حزب الله، المؤتمرة بأمر الولي الفقيه الإيراني علي خامنئي، صوب محافظة الأنبار فسره مراقبون سياسيون وعراقيون متابعون بأنه تهديد لرئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، وزعيم تحالف عزم السني خميس الخنجر للضغط عليهما بهدف إفشال تحالفهما مع زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر ولعدم توفر إمكانية لدى هذه الكتائب لتطويق الحنانة، مقر إقامة الصدر في النجف، وإجباره على فك تحالفه مع القوى السياسية السنية والكردية، ولعجزها كذلك عن مهاجمة إقليم كردستان لإجبار الأكراد المتحالفين مع الصدر على فض تحالفهم معه.
إن سبب هذا التحرّك الإيراني في تعويق خطوات الصدر يرجعه مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية والسفير السابق الدكتور غازي السكوتي إلى أطروحات الصدر “لا شرقية ولا غربية” الهادفة إلى رفض التدخل الإيراني في الشؤون السيادية للعراق، بالإضافة إلى رفضه نظام المحاصصة الطائفية ودعوته إلى نزع سلاح الميليشيات وتفكيك الكتائب المسلحة، وهو ما عمّق الفجوة مع إيران التي فشلت، إلى الآن، في ضمان استمرار نفوذها وتدخلها في المؤسسات العراقية.
الواقع، إن الإيرانيين لم يتوقعوا أن تخسر الأحزاب والميليشيات الموالية لهم هذه الخسارة الكبيرة المدوية، وأن يتمكن التيار الصدري والحلبوسي من الحصول على هذا العدد الكبير من النواب، كما لم يخطر على بالهم أن يتخذ مقتدى الصدر هذا الموقف المتصلّب بعدم الاعتراف بالإطار التنسيقي عامة والمالكي بصفة خاصة ورفضه التعاون معه، لذلك قرروا تغيير تعاملهم مع مجموعة التحالف (مقتدى، الحلبوسي وبارزاني) بنحو مغاير. ففي الأمس كانت الأوامر تصدر من طهران وما على بغداد إلا التنفيذ بدقة وإخلاص، لذلك، يقول الدبلوماسي السابق طلال بركات إن إسماعيل قاآني انتهج أسلوبا يختلف عن أسلوب سلفه قاسم سليماني حيث اضطر إلى الاعتراف بفشل عملاء بلاده في الانتخابات فشلا ذريعا، وبدأ يسلك طريق القوة الناعمة في سبيل لمّ شتات البيت الشيعي المتناثر وإقناع مقتدى بإعطاء أكبر عدد ممكن من الوزارات والمناصب لصالح مجموعته لكي يبقي تأثير إيران موجودا في جسم الحكومة العراقية المقبلة ولا يتلاشى تماما ولرد بعض الاعتبار لهذه الشرذمة التي انكشفت وسقطت بين أبناء الشعب العراقي عامة وبين أبناء المناطق الوسطى والجنوبية على نحو خاص.
إن الكثير من الآراء تلتقي عند هذه النقطة، ومنها رأي السفير السابق الدكتور مظفر الأمين الذي يقطع أن سليماني استطاع في السابق ترويض الفصائل والقوى السياسية كافة في العراق، سواء الشيعية أو السنية، وتعامل مع الجميع وكأنهم خدم وجنود تجب عليهم الطاعة للولي الفقيه الإيراني، ولكن بعد رحيله، لم تعد بعض الفصائل تمتثل لأوامر بديل سليماني ولا تبدي له الطاعة، ومن تلك الفصائل ما يوالي الولي الفقيه الإيراني، ففقدت إيران حاضنتها في العراق خصوصا الشيعة الذين لا يؤمنون بمرجعية الولي الفقيه، ومنهم الصدر الذي يعتز بمرجعية والده ويطمح إلى أن يتبوأ مكانته، لهذا شرع في التمرّد على الهيمنة الإيرانية فتحولت بوصلة ولاء الشيعة الذين ضاقوا ذرعا بالسياسة الإيرانية إلى الصدر، خصوصا في المحافظات الجنوبية وأصبح له من الأتباع ما يفوق الأطراف الأخرى مما أغاظ ملالي إيران الذين بدأوا يخلقون له المتاعب باستخدام الذيول والميليشيات التي باتت تعرف بالإطار والحشد.
إن أقسى ما حصل في هذا السياق هو الحرب غير المعلنة والاغتيالات المتبادلة بين سرايا “السلام” التابعة لزعيم الكتلة الصدرية مقتدى الصدر وبين “عصائب أهل الحق” بزعامة قيس الخزعلي في محافظة ميسان جنوبي العراق، على خلفية الصراع السياسي بين القوى الشيعية المنضوية في ما يعرف بالإطار التنسيقي والصدر بشأن تشكيل الحكومة الجديدة.
وعلى الرغم من أن المشهد العام للاغتيالات أوحى بأن هذه الأحداث تأتي كردود أفعال عشائرية، فإن العديد من المنتمين أو المؤيدين للتيار الصدري أو عصائب أهل الحق وغيرهما من الفصائل الشيعية المسلحة سقطوا ضحية هذه الاغتيالات، لتتحول إلى جزء من الصراع بين الصدر والقوى الشيعية المسلحة الأخرى، وبالأخص عصائب أهل الحق أحد مكونات الإطار التنسيقي.
ما حصل في مدينة العمارة، مركز محافظة ميسان، يندرج في إطار ليّ ذراع الصدر لإرغامه على القبول بالمطالب الإيرانية ورفع الفيتو الذي أعلنه على الإطار التنسيقي والحشد ومنحهما مناصب مؤثرة في الحكومة المقبلة التي يعلن الصدر أنه يريدها حكومة أغلبية وطنية.
اعترف الصدر بأن التصعيد في محافظة ميسان ذات الأغلبية الصدرية هو تصعيد سياسي، وقال في بيان دعا فيه إلى التهدئة “على الإخوة في التيار والعصائب التحلي بالهدوء وليجمعهم محمد الصدر إن لم يكن مقتدى مؤهلا لذلك عند بعضهم”.
وأضاف “أتفرّقنا السياسة؟ كلا وألف كلا.. فأنتم إخوة وإن اختلفنا معهم سياسيا أو لم نرض بالتحالف معهم، فتصالحوا بعيدا عن القيادات فأنتم من أب واحد ومرجع واحد”.
وتابعه زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي في التعليق على أحداث محافظة ميسان، داعيا أهالي المحافظة إلى الحذر مما وصفه بـ”مشروع فتنة، يراد إيقاعه بين أبناء الوطن الواحد والمذهب الواحد والمحافظة الواحدة”.وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي زار محافظة ميسان، بعد سلسلة الاغتيالات التي شهدتها واجتمع بالقيادات الأمنية، مؤكدا متابعة وضع المحافظة مع القيادات الأمنية واعتقال جميع المجرمين وتسليمهم إلى القضاء، وإنزال أشد العقوبات بهم، إلا أن عمليات الاغتيال في مدينة العمارة مركز المحافظة، استؤنفت، بعد ساعات من مغادرته المحافظة، حيث هاجمت مجموعة مسلحة مركبة القيادي البارز في التيار الصدري كرار أبورغيف مما أسفر عن مقتله وزوجته.
وشدد رئيس مركز العراق للدراسات الاستراتيجية غازي فيصل على القول إن “ما يحصل في ميسان يعكس أحد أشكال الصراع بين الأطراف السياسية الذي تطور إلى عنف مسلح في المحافظة”، مرجحا أن ما حصل يتعلق بالصراع على منصب المحافظ وغيرها من التفاصيل التي تتعلق بإدارة المحافظة.
ووصف فيصل الوضع في العراق وميسان على وجه الخصوص بـ”الخطير وذلك من خلال تهريب المخدرات والنفط وتهديد تنظيمات مسلحة للشركات الصينية ولا يوجد تفعيل للقانون والنظام لضبط الصراعات داخل المجتمع ومنع تطورها”، مبينا أن هناك أكثر من 20 مليون قطعة سلاح منفلت بيد العشائر من دون ضوابط، وتاليا فإن هذا السلاح سيؤدي إلى ارتكاب الجرائم.
كان من المفترض أن تخضع هذه الكتائب المسلحة لسيطرة قياداتها، إلا أنها بعد تحولها إلى سلاح منفلت، باتت لا تحترم قرارات قياداتها ولا سلطة الدولة، وإن لم تتم السيطرة عليها ستعمل على إحداث الفوضى، فعند قصف السفارة الأميركية ومنزل الكاظمي والقواعد العراقية صدرت تصريحات من قيادات أعلنت نفيها وإدانتها لمن يقوم بهذه الأعمال في وقت يبرز التساؤل: من يصدر القرار باستهداف مؤسسات الدولة؟
ملخص القول إن ما يجري من صراع بين القوى السياسية وما سيفرزه هذا الصراع من نتائج، مهما كانت، يصب في صالح ثورة تشرين العراقية التي ستندلع بنحو أقوى، بعد أن تجد أن أيا من مطالبها لم يتحقق وأن عليها المضي في طريقها لإزالة العملية السياسية وشخوصها وفرض استحقاقها بعد تقديمها أكثر من ألف شهيد.
0 تعليقات