القتال هو القوة الوحيدة الفاعلة في الحرب، وغايته هو تدمير القوات المعادية كوسيلة إلى نهاية أبعد من تلك الحرب – كارل فون كلاوزفيتز
تعددت تعاريف الحرب وتختلف وفقا لبيئتها وتاريخها والهدف منها ، والظرف الحاكم للحرب ، وغالبا ما تتسق الحروب بأهداف سياسية ، تتوافق مع مبادئ الحرب كالمعنويات ، والمناورة وتوخي وانتخاب الهدف ، والشؤون الإدارية ، والامن والمباغتة ، الا ان التطورات التقنية والتكنلوجية قد غيرت من الوسائل والأساليب في الحروب المعاصرة ، وربما اضافت مبادئ تطبيقية لم تذكرها الكراسات العلمية ، في ظل حروب متنوعة في الأساليب الوسائل والأهداف ، والكلفة.
ويعرف المنظر العسكري “كارل فون كلاوزفيتس”[1] الحرب على انها ((نزاع مسلح تبادلي بين دولتين أو أكثر من الكيانات غير المنسجمة، حيث ان الهدف منها هو إعادة تنظيم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج مرجوة ومصممة بشكل ذاتي))، وقال في كتابه “عن الحرب” أنها ” (عمليات مستمرة من العلاقات السياسية، ولكنها تقوم عبر وسائل مختلفة)
وقال “كارل فون كلاوزفيتس” (إن لكل عصر نوعه الخاص من الحروب، والظروف الخاصة، والتحيزات المميزة) ولذلك ان ملامح الحروب المعاصرة مختلفة في الاستراتيجيات والاهداف والأساليب والتكتيكات، والموارد وشكل شرعية الحرب، وقد اطلقنا على هذا المزج الحديث في لوسائل القتال وتطور الأساليب بمصطلح “الحرب المركبة” ، ومنذ عام 2010 نكتب مقالات بشكل دوري عن هذه الظاهرة ، الياتها واساليبها وسماتها.
عقيدة الحرب المركبة
تخبرنا الحرب المركبة[2] التي بزغ عصرها في 1992 وحتى الان ، بفاعلية هذه الحرب في استنزاف الدول وتفكيك قدراتها الجيوسياسية ، وانهاك جيوشها النظامية، ويلاحظ ان عقيدة الحرب المركبة مرتبطة بأساليب الطوق والانتشار والعمل تحت الأرض، وانشاء تمركزات عسكرية ضمن خارطة التاثير العسكري ، وتستخدم كجيوش اجنبية سيارة يسهل استخدامها ، ونقلها برا او جوا الى مسارح العمليات المستهدفة ، وتؤمن قابلية المناورة العسكرية ، واشغال الخصم في اكثر من موقع تماس، ويشتت الجهد والموارد ، ومن سمات هذه الحرب عدم شرعيتها القانونية بوصفها نزاع مسلح دولي[3] ، بل تأخذ شكل اخر من التوصيفات القانونية ، ويصفها المجتمع الدولي بنزاعات مسلحة غير قانونية ، ولا تخضع للقانون الدولي وبنوده مما يتيح لها حوض القتال الوحشي دون مسائلة ، وتخبرنا الوقائع الحربية وفقا لهذا النمط بنجاح معتنقي هذه العقيدة ، وعدم خضوعها لمحددات القانون الدولي، والمسائلة القانونية عن افعالها.
خصخصة الحرب
الحرب المركبة هي احد افرازات خصخصة الحرب 1992 وتجارة الامن القومي، وبعد تخفيض الميزانيات العسكرية، وخفض عدد الجنود ، تضطرّ البلدان التي اعتنقت نظرية الجيش الصغير ، وخصخصة القوة ، إلى إيكال بعض مهامها إلى شركات عسكرية خاصة[4]، ولكن هذه الشركات تتقاضى أجورا باهظة[5]، وتعمل بمسارين اساسين، الأول: تقديم الخدمات العسكرية والأمنية والإعلامية والاستشارية باهظة الثمن للدول ، والمسار الثاني: جعل الدولة ضعيفة تعتمد غالبا على خدمات تلك الشركات وغير قادرة على حسم الحروب.
وتنتعش هذه الخدمات في الدول الفاشلة التي تعجز عن احكام السيطرة على حدودها السياسية ، وصيانة مجتمعاتها ، وتطوير قواتها المسلحة ، مما ينتج ظواهر الإرهاب المسلح بكافة اشكاله والوانه ، وقد حققت هذه المسارات الاهداف السياسية لعدد من الشركات الكبرى في ظل اغراق المناخ العسكري للدول المستهدفة، بأدوات الحرب اللامتناظرة ، وقد استخدمت شركات المرتزقة في الحروب بشكل واسع لتقديم خدمات حماية المواقع ، والأشخاص وخدمات الحراسة المختلفة، ويشير إلى الشركات العسكرية والأمنية الخاصة التي تقدم الدعم التشغيلي المسلح في مناطق النزاع، وتشاركها الميدان الفصائل المسلح العاملة كوكلاء حرب في دول النفوذ، وكذلك المتطوعين والمرتزقة، ولعل من ابرز الفئات المتحاربة في هذا الاطار هي:
الشركات الأمنية الخاصة
الشركات العسكرية الخاصة
المتطوعون والمرتزقة
المليشيات المسلحة (القوى الوكيلة)
القوى الدينية المسلحة (المنتظمة بفتوى القتال)
القوى العشائرية
التنظيمات المسلحة الاخرى
الاسلحة الرخيصة
تعتبر الحروب سمة عامة ضمن سياق التحولات السياسية، وربما احد مخرجات تبدل الأنظمة السياسية ، وفي الواقع الحرب اصبحت تجارة ، وسوق للسلاح ، وقد تستخدم دول ما الحروب كنهج استراتيجي ، وتختلف آليات القتال ووسائل وأساليب “الحرب المركبة” عن الحرب النظامية في مسرح العمليات ، لاسيما في انتخاب وتوخي الأهداف العسكرية ، وفي الغالب تكون الأهداف قابلة للتوسع حسب الموقف العسكري ، ومدى النجاح الميداني او التاثير السياسي المطلوب احداثه
وتستخدم في الحرب الوسائل والموارد الحربية غير المكلفة، التي في الغالب تكون اقل كلفة عن وسائل الحرب التقليدية النظامية ، حيث تستخدم الاسلحة الرخيصة نسبيا كالطائرات المسيرة والصواريخ الميدانية او المتوسطة المدى المحلية الصنع ، وأسلحة خفيفة ، ومتوسطة غير مكلفة ، قياسا بوسائل التصدي التقليدية ؛ كالطائرات ومنظومات الدفاع الجوي والاعتدة الباهظة الثمن ، مما يحقق عقيدة المستخدم الساعية الى التاثير المباشر، واستنزاف الخصم ماديا ومعنويا ، فضلا عن عامل الوقت، ويقول “كارل فون كلاوزفيتز” (القتال هو القوة الوحيدة الفاعلة في الحرب ، وغايته هو تدمير القوات المعادية كوسيلة إلى نهاية أبعد من تلك الحرب).
مفهوم عسكري مختلف
يجري خوض الحرب وفقا لغاية وأهداف تحددها القيادة السياسية العسكرية على شكل صفحات وفق الية التخطيط العسكري ، بينما في الحرب المركبة تكون الأهداف مجزئة تتلاعب بها القيادة الميدانية ، وتعمل بشكل لامركزي أحيانا ، ويذكر التاريخ ان الحروب النظامية انتهت باحتلال دول ، وتغير أنظمة سياسية ، وإيقاف توغل جيش ما ، وخوض حرب إجهاضيه تنتهي بإزاحة التهديد ، وهنا في الحرب المركبة تستخدم بفصائل مسلحة غير نظامية (قوات وكيلة ) ويتم تجزئة الأهداف الى مراحل: الوصول والتأسيس والانتشار ثم التمكين وتصبح قوة فاعلة ومؤثرة في مسرح الحرب.
ويراعى في الحرب النظامية ان تكون الأهداف محددة سوقيا بما يتسق بعقيدة التهديد ، التي تحدد شكل الأهداف واسبقياتها ، ودرجة خطورتها ، واهميتها ، حيث يتم في الغالب استخدام الأساليب التقليدية ، والمعالجة بالقوات النظامية المدربة على الحرب النظامية، وعند فحص اليات عمل العدو غير النظامي واساليبه ووسائله ، نجد ان هناك مساحة كبيرة بين الطرفين ، لاسيما المناورة وقابلية الحركة والتنقل وانتخاب الهدف والتعرض ، مما يصعد عامل الكلفة والتأثير ، وهذا يتطلب إعادة النظر بالوسائل والأساليب الحربية التقليدية ، وتطويعها وفقا لنمط الحرب المتغير ـ ويحتاج ذلك الى فكر ميداني يواكب التطورات المعاصرة في مسرح الحرب.
مسك الارض
يرى عدد من الخبراء ان الفصائل المسلحة غير المتناظرة لا تمسك الأرض ، بل تستخدم عقيدة “عض واهرب” ضمن سياق حرب العصابات المعروفة ، ولكن اثبتت التجارب والحروب المعاصرة وفقا للوقائع الجارية حتى الان ، بان تلك الفصائل الحربية قد غيرت من هذا المفهوم ، وطورت الأساليب القتالية في ظل ضعف الدولة ، وأصبحت تحتكم على الأرض ، والقرار السياسي ، والتأثير الاقتصادي على عوامل القوة الوطنية ، وتسخيرها لصالح الفاعل الأصيل خارج الحدود ، او لصالح الوكلاء ضمن خارطة الانتشار العسكري، لاسيما بعد ان أسست كيان مسلح سياسي موازي للدولة ، وصنعت المناخ الحربي المناسب للبقاء والسيطرة على مدن وقرى ومنافذ حدودية في الدولة المخترقة ، وتأسيس التمركز الحربي الدائم ، واصبح من المألوف جدا مشاهدة هذه الظواهر المسلحة في دول الشرق الأوسط .
خليط القوة
تخصص للحروب موارد عسكرية متعددة ترتبط بسياقات التخصيص المنصوص عليها في القياسات الحربية، وبالإمكان رصد موارد إضافية لتحقيق الأهداف العسكرية عند الضرورة ، ويلاحظ ان التخصيص يعتمد على متطلبات التشكيلات النظامية المقاتلة ، والساندة كالقوة الجوية ، والمروحيات ومنظومات الدفاع الجوي ، والقطعات البحرية والمدفعية الخ ، لتكون القطعات المشاركة وفقا لنظام المعركة والجيوش تعمل كالنسيج الحربي المتكامل ، والمتجانس في مسرح العمليات .
وفي اليات الحرب المركبة هناك تشكيلات قتالية غير نظامية، لا تمتلك العقيدة العسكرية المحترفة ، والانضباط العسكري ، والالتزام بالمواثيق والمعاهدات الدولية ، وهذه التشكيلات بالغالب تحمل أيديولوجيا وعقائد دينية متطرفة مؤطره سياسيا ( مقاتل وحشي) ، ويلاحظ من خلال التجارب الميدانية ان هذه الفصائل مزودة بأسلحة حربية تقليدية غير مكلفة ، ويقدم لها الاسناد الجوي والمعلومات والأسلحة الحربية ، وتقديم الدعم الناري ..الخ، وهذا التحول في نمط واليات الحرب المعاصرة قد يبرره البعض بانه الضرورة الحربية ؟ ولكن هذا النمط من الحرب والعمل العسكري والقتال المركب بين القوة النظامية وغير النظامية قد افرزه الواقع العسكري المبعثر في الشرق الأوسط ما بعد 2003 .
كلفة متباينة
برغم ان الشركات العسكرية الخاصة العاملة في الوسط الحربي تتقاضى أجور باهضه ، مقابل الخدمات العسكرية المقدمة كالأمن والدعم اللوجستي، والقتال وتنفيذ المهام الصعبة كالعمليات الخاصة ، لا ان هناك تكلفة منخفضة للحرب في استخدام التنظيمات والفصائل المسلحة قياسا ، بأهمية وكلفة الهدف المتحقق ، لو انتقلنا الى مواقع أخرى تستخدم فيها الجيوش المدفوعة الثمن الجوالة ، فنجد هناك كلفة متباينة في الدفاع والهجوم ، فان كلفة الدفاع باهضه لردع هذه التشكيلات ، ومنعها من تحقيق أهدافها في الدول المستهدفة التي تردعهم بالقوات النظامية ، لذا فان العقيدة الحربية المعتمدة على تعشيق ومزج القوة غير النظامية بقدرات نظامية قد حققت مبدأ مهم وهو الاقتصاد بالجهد والموارد لتحقيق الهدف ، وبنفس الوقت قد استنزفت الدول المدافعة التي استخدمت القوات النظامية والشركات العسكرية الخاصة للدفاع.
خلاصة
تحتاج الحروب المعاصرة الى دراسات بأفق مفتوح، بعيدا عن الرتابة العلمية في ظل انتعاش سوق الحرب والامن ومحاربة الارهاب، ونحتاج الى متابعة ودراسة ملامح هذه الحروب الشبكية وسماتها والياتها ، وتعد نمط حربي متجدد في مسارح الحروب المعاصرة ، خصوصا انها فاعلة ومتفاعلة في الشرق الأوسط ، ولم تعد محدودة في رقعة جغرافية ما ، وأصبحت نمط متدحرج نلمس ملامحه في مسارح متعددة ، وظاهرة حربية غير مكلفة لصانع الحرب ، ومكلفة بشريا ومعنويا للدولة المستهدفة .
*خبير عراقي استراتيجي – عسكري
المراجع
مهند العزاوي، بحث الحرب المركبة ، أذار2013
مهند العزاوي محاضرة النزاعات المسلحة حزيران 2020
عبد الناصر العايد – رشيد حوراني الشركات الأمنية والعسكرية تتنامى بصمت في الشرق الأوسط، ابريل 2020
فريديريك بورنان، شركات تجنيد المرتزقة.. سوق مربحة فبراير 2013
[1] . كارل فون كلاوزفيتز (بالإنجليزية: Carl von Clausewitz) (ولد سنة 1780 في ماغدبورغ الألمانية وتوفي سنة 1831 في بريسلاو) جنرال ومؤرخ حربي بروسي. من أهم مؤلفاته كتاب (Vom Kriege) أي: من الحرب. تركت كتاباته حول الفلسفة والتكتيك والإستراتيجية أثرا عميقا في المجال العسكري في البلدان الغربية. تدرس أفكاره في العديد من الأكاديميات العسكرية كما أنها تستعمل في عدة مجالات مثل قيادة المؤسسات والتسويق. ويعتبر من أكبر المفكرين العسكريين شهرة وتأثيرا على مر التاريخ
[2] . أطلق الكاتب مصطلح الحرب المركبة في 2012 وتم اطلاق في 2019 مصطلح مشابه في الوصف للحروب المعاصرة بالحرب الهجينة من قبل الأوساط العسكرية الإعلامية الامريكية.
[3] . مهند العزاوي، النزاعات المسلحة محاضرة، حزيران 2022
[4] . تهتم الشركات العسكرية الخاصة بأسواق محددة وهامة، أي النشاطات التي لم تعد القوات العسكرية التقليدية راغبة، أو قادرة على القيام بها. إذ أصبح القادة العسكريون يعتبرون توظيف جنود لعدة سنوات للقيام بمهام معينة أمرا غير مربح، لذلك أصبحوا يفضلون تكليف هذه الشركات العسكرية الخاصة بجملة من المهام مثل الإمداد والتموين. شركات تجنيد المرتزقة.. سوق مُربحة – SWI swissinfo.ch
[5] . لا يوجد تشريعات أو قوانين دولية محددة وصارمة بخصوص الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة، وتعتبر “وثيقة مونترو”، والمعروفة أيضا باسم “المبادرة السويسرية”، التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 2008، الوثيقة الأساسية الناظمة لعمل الشركات الأمنية والعسكرية اليوم، حيث تضع معايير وممارسات غير ملزمة لهذه الشركات، أي قواعد عرفية بموجب القانون الإنساني الدولي.
تعددت تعاريف الحرب وتختلف وفقا لبيئتها وتاريخها والهدف منها ، والظرف الحاكم للحرب ، وغالبا ما تتسق الحروب بأهداف سياسية ، تتوافق مع مبادئ الحرب كالمعنويات ، والمناورة وتوخي وانتخاب الهدف ، والشؤون الإدارية ، والامن والمباغتة ، الا ان التطورات التقنية والتكنلوجية قد غيرت من الوسائل والأساليب في الحروب المعاصرة ، وربما اضافت مبادئ تطبيقية لم تذكرها الكراسات العلمية ، في ظل حروب متنوعة في الأساليب الوسائل والأهداف ، والكلفة.
ويعرف المنظر العسكري “كارل فون كلاوزفيتس”[1] الحرب على انها ((نزاع مسلح تبادلي بين دولتين أو أكثر من الكيانات غير المنسجمة، حيث ان الهدف منها هو إعادة تنظيم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج مرجوة ومصممة بشكل ذاتي))، وقال في كتابه “عن الحرب” أنها ” (عمليات مستمرة من العلاقات السياسية، ولكنها تقوم عبر وسائل مختلفة)
وقال “كارل فون كلاوزفيتس” (إن لكل عصر نوعه الخاص من الحروب، والظروف الخاصة، والتحيزات المميزة) ولذلك ان ملامح الحروب المعاصرة مختلفة في الاستراتيجيات والاهداف والأساليب والتكتيكات، والموارد وشكل شرعية الحرب، وقد اطلقنا على هذا المزج الحديث في لوسائل القتال وتطور الأساليب بمصطلح “الحرب المركبة” ، ومنذ عام 2010 نكتب مقالات بشكل دوري عن هذه الظاهرة ، الياتها واساليبها وسماتها.
عقيدة الحرب المركبة
تخبرنا الحرب المركبة[2] التي بزغ عصرها في 1992 وحتى الان ، بفاعلية هذه الحرب في استنزاف الدول وتفكيك قدراتها الجيوسياسية ، وانهاك جيوشها النظامية، ويلاحظ ان عقيدة الحرب المركبة مرتبطة بأساليب الطوق والانتشار والعمل تحت الأرض، وانشاء تمركزات عسكرية ضمن خارطة التاثير العسكري ، وتستخدم كجيوش اجنبية سيارة يسهل استخدامها ، ونقلها برا او جوا الى مسارح العمليات المستهدفة ، وتؤمن قابلية المناورة العسكرية ، واشغال الخصم في اكثر من موقع تماس، ويشتت الجهد والموارد ، ومن سمات هذه الحرب عدم شرعيتها القانونية بوصفها نزاع مسلح دولي[3] ، بل تأخذ شكل اخر من التوصيفات القانونية ، ويصفها المجتمع الدولي بنزاعات مسلحة غير قانونية ، ولا تخضع للقانون الدولي وبنوده مما يتيح لها حوض القتال الوحشي دون مسائلة ، وتخبرنا الوقائع الحربية وفقا لهذا النمط بنجاح معتنقي هذه العقيدة ، وعدم خضوعها لمحددات القانون الدولي، والمسائلة القانونية عن افعالها.
خصخصة الحرب
الحرب المركبة هي احد افرازات خصخصة الحرب 1992 وتجارة الامن القومي، وبعد تخفيض الميزانيات العسكرية، وخفض عدد الجنود ، تضطرّ البلدان التي اعتنقت نظرية الجيش الصغير ، وخصخصة القوة ، إلى إيكال بعض مهامها إلى شركات عسكرية خاصة[4]، ولكن هذه الشركات تتقاضى أجورا باهظة[5]، وتعمل بمسارين اساسين، الأول: تقديم الخدمات العسكرية والأمنية والإعلامية والاستشارية باهظة الثمن للدول ، والمسار الثاني: جعل الدولة ضعيفة تعتمد غالبا على خدمات تلك الشركات وغير قادرة على حسم الحروب.
وتنتعش هذه الخدمات في الدول الفاشلة التي تعجز عن احكام السيطرة على حدودها السياسية ، وصيانة مجتمعاتها ، وتطوير قواتها المسلحة ، مما ينتج ظواهر الإرهاب المسلح بكافة اشكاله والوانه ، وقد حققت هذه المسارات الاهداف السياسية لعدد من الشركات الكبرى في ظل اغراق المناخ العسكري للدول المستهدفة، بأدوات الحرب اللامتناظرة ، وقد استخدمت شركات المرتزقة في الحروب بشكل واسع لتقديم خدمات حماية المواقع ، والأشخاص وخدمات الحراسة المختلفة، ويشير إلى الشركات العسكرية والأمنية الخاصة التي تقدم الدعم التشغيلي المسلح في مناطق النزاع، وتشاركها الميدان الفصائل المسلح العاملة كوكلاء حرب في دول النفوذ، وكذلك المتطوعين والمرتزقة، ولعل من ابرز الفئات المتحاربة في هذا الاطار هي:
الشركات الأمنية الخاصة
الشركات العسكرية الخاصة
المتطوعون والمرتزقة
المليشيات المسلحة (القوى الوكيلة)
القوى الدينية المسلحة (المنتظمة بفتوى القتال)
القوى العشائرية
التنظيمات المسلحة الاخرى
الاسلحة الرخيصة
تعتبر الحروب سمة عامة ضمن سياق التحولات السياسية، وربما احد مخرجات تبدل الأنظمة السياسية ، وفي الواقع الحرب اصبحت تجارة ، وسوق للسلاح ، وقد تستخدم دول ما الحروب كنهج استراتيجي ، وتختلف آليات القتال ووسائل وأساليب “الحرب المركبة” عن الحرب النظامية في مسرح العمليات ، لاسيما في انتخاب وتوخي الأهداف العسكرية ، وفي الغالب تكون الأهداف قابلة للتوسع حسب الموقف العسكري ، ومدى النجاح الميداني او التاثير السياسي المطلوب احداثه
وتستخدم في الحرب الوسائل والموارد الحربية غير المكلفة، التي في الغالب تكون اقل كلفة عن وسائل الحرب التقليدية النظامية ، حيث تستخدم الاسلحة الرخيصة نسبيا كالطائرات المسيرة والصواريخ الميدانية او المتوسطة المدى المحلية الصنع ، وأسلحة خفيفة ، ومتوسطة غير مكلفة ، قياسا بوسائل التصدي التقليدية ؛ كالطائرات ومنظومات الدفاع الجوي والاعتدة الباهظة الثمن ، مما يحقق عقيدة المستخدم الساعية الى التاثير المباشر، واستنزاف الخصم ماديا ومعنويا ، فضلا عن عامل الوقت، ويقول “كارل فون كلاوزفيتز” (القتال هو القوة الوحيدة الفاعلة في الحرب ، وغايته هو تدمير القوات المعادية كوسيلة إلى نهاية أبعد من تلك الحرب).
مفهوم عسكري مختلف
يجري خوض الحرب وفقا لغاية وأهداف تحددها القيادة السياسية العسكرية على شكل صفحات وفق الية التخطيط العسكري ، بينما في الحرب المركبة تكون الأهداف مجزئة تتلاعب بها القيادة الميدانية ، وتعمل بشكل لامركزي أحيانا ، ويذكر التاريخ ان الحروب النظامية انتهت باحتلال دول ، وتغير أنظمة سياسية ، وإيقاف توغل جيش ما ، وخوض حرب إجهاضيه تنتهي بإزاحة التهديد ، وهنا في الحرب المركبة تستخدم بفصائل مسلحة غير نظامية (قوات وكيلة ) ويتم تجزئة الأهداف الى مراحل: الوصول والتأسيس والانتشار ثم التمكين وتصبح قوة فاعلة ومؤثرة في مسرح الحرب.
ويراعى في الحرب النظامية ان تكون الأهداف محددة سوقيا بما يتسق بعقيدة التهديد ، التي تحدد شكل الأهداف واسبقياتها ، ودرجة خطورتها ، واهميتها ، حيث يتم في الغالب استخدام الأساليب التقليدية ، والمعالجة بالقوات النظامية المدربة على الحرب النظامية، وعند فحص اليات عمل العدو غير النظامي واساليبه ووسائله ، نجد ان هناك مساحة كبيرة بين الطرفين ، لاسيما المناورة وقابلية الحركة والتنقل وانتخاب الهدف والتعرض ، مما يصعد عامل الكلفة والتأثير ، وهذا يتطلب إعادة النظر بالوسائل والأساليب الحربية التقليدية ، وتطويعها وفقا لنمط الحرب المتغير ـ ويحتاج ذلك الى فكر ميداني يواكب التطورات المعاصرة في مسرح الحرب.
مسك الارض
يرى عدد من الخبراء ان الفصائل المسلحة غير المتناظرة لا تمسك الأرض ، بل تستخدم عقيدة “عض واهرب” ضمن سياق حرب العصابات المعروفة ، ولكن اثبتت التجارب والحروب المعاصرة وفقا للوقائع الجارية حتى الان ، بان تلك الفصائل الحربية قد غيرت من هذا المفهوم ، وطورت الأساليب القتالية في ظل ضعف الدولة ، وأصبحت تحتكم على الأرض ، والقرار السياسي ، والتأثير الاقتصادي على عوامل القوة الوطنية ، وتسخيرها لصالح الفاعل الأصيل خارج الحدود ، او لصالح الوكلاء ضمن خارطة الانتشار العسكري، لاسيما بعد ان أسست كيان مسلح سياسي موازي للدولة ، وصنعت المناخ الحربي المناسب للبقاء والسيطرة على مدن وقرى ومنافذ حدودية في الدولة المخترقة ، وتأسيس التمركز الحربي الدائم ، واصبح من المألوف جدا مشاهدة هذه الظواهر المسلحة في دول الشرق الأوسط .
خليط القوة
تخصص للحروب موارد عسكرية متعددة ترتبط بسياقات التخصيص المنصوص عليها في القياسات الحربية، وبالإمكان رصد موارد إضافية لتحقيق الأهداف العسكرية عند الضرورة ، ويلاحظ ان التخصيص يعتمد على متطلبات التشكيلات النظامية المقاتلة ، والساندة كالقوة الجوية ، والمروحيات ومنظومات الدفاع الجوي ، والقطعات البحرية والمدفعية الخ ، لتكون القطعات المشاركة وفقا لنظام المعركة والجيوش تعمل كالنسيج الحربي المتكامل ، والمتجانس في مسرح العمليات .
وفي اليات الحرب المركبة هناك تشكيلات قتالية غير نظامية، لا تمتلك العقيدة العسكرية المحترفة ، والانضباط العسكري ، والالتزام بالمواثيق والمعاهدات الدولية ، وهذه التشكيلات بالغالب تحمل أيديولوجيا وعقائد دينية متطرفة مؤطره سياسيا ( مقاتل وحشي) ، ويلاحظ من خلال التجارب الميدانية ان هذه الفصائل مزودة بأسلحة حربية تقليدية غير مكلفة ، ويقدم لها الاسناد الجوي والمعلومات والأسلحة الحربية ، وتقديم الدعم الناري ..الخ، وهذا التحول في نمط واليات الحرب المعاصرة قد يبرره البعض بانه الضرورة الحربية ؟ ولكن هذا النمط من الحرب والعمل العسكري والقتال المركب بين القوة النظامية وغير النظامية قد افرزه الواقع العسكري المبعثر في الشرق الأوسط ما بعد 2003 .
كلفة متباينة
برغم ان الشركات العسكرية الخاصة العاملة في الوسط الحربي تتقاضى أجور باهضه ، مقابل الخدمات العسكرية المقدمة كالأمن والدعم اللوجستي، والقتال وتنفيذ المهام الصعبة كالعمليات الخاصة ، لا ان هناك تكلفة منخفضة للحرب في استخدام التنظيمات والفصائل المسلحة قياسا ، بأهمية وكلفة الهدف المتحقق ، لو انتقلنا الى مواقع أخرى تستخدم فيها الجيوش المدفوعة الثمن الجوالة ، فنجد هناك كلفة متباينة في الدفاع والهجوم ، فان كلفة الدفاع باهضه لردع هذه التشكيلات ، ومنعها من تحقيق أهدافها في الدول المستهدفة التي تردعهم بالقوات النظامية ، لذا فان العقيدة الحربية المعتمدة على تعشيق ومزج القوة غير النظامية بقدرات نظامية قد حققت مبدأ مهم وهو الاقتصاد بالجهد والموارد لتحقيق الهدف ، وبنفس الوقت قد استنزفت الدول المدافعة التي استخدمت القوات النظامية والشركات العسكرية الخاصة للدفاع.
خلاصة
تحتاج الحروب المعاصرة الى دراسات بأفق مفتوح، بعيدا عن الرتابة العلمية في ظل انتعاش سوق الحرب والامن ومحاربة الارهاب، ونحتاج الى متابعة ودراسة ملامح هذه الحروب الشبكية وسماتها والياتها ، وتعد نمط حربي متجدد في مسارح الحروب المعاصرة ، خصوصا انها فاعلة ومتفاعلة في الشرق الأوسط ، ولم تعد محدودة في رقعة جغرافية ما ، وأصبحت نمط متدحرج نلمس ملامحه في مسارح متعددة ، وظاهرة حربية غير مكلفة لصانع الحرب ، ومكلفة بشريا ومعنويا للدولة المستهدفة .
*خبير عراقي استراتيجي – عسكري
المراجع
مهند العزاوي، بحث الحرب المركبة ، أذار2013
مهند العزاوي محاضرة النزاعات المسلحة حزيران 2020
عبد الناصر العايد – رشيد حوراني الشركات الأمنية والعسكرية تتنامى بصمت في الشرق الأوسط، ابريل 2020
فريديريك بورنان، شركات تجنيد المرتزقة.. سوق مربحة فبراير 2013
[1] . كارل فون كلاوزفيتز (بالإنجليزية: Carl von Clausewitz) (ولد سنة 1780 في ماغدبورغ الألمانية وتوفي سنة 1831 في بريسلاو) جنرال ومؤرخ حربي بروسي. من أهم مؤلفاته كتاب (Vom Kriege) أي: من الحرب. تركت كتاباته حول الفلسفة والتكتيك والإستراتيجية أثرا عميقا في المجال العسكري في البلدان الغربية. تدرس أفكاره في العديد من الأكاديميات العسكرية كما أنها تستعمل في عدة مجالات مثل قيادة المؤسسات والتسويق. ويعتبر من أكبر المفكرين العسكريين شهرة وتأثيرا على مر التاريخ
[2] . أطلق الكاتب مصطلح الحرب المركبة في 2012 وتم اطلاق في 2019 مصطلح مشابه في الوصف للحروب المعاصرة بالحرب الهجينة من قبل الأوساط العسكرية الإعلامية الامريكية.
[3] . مهند العزاوي، النزاعات المسلحة محاضرة، حزيران 2022
[4] . تهتم الشركات العسكرية الخاصة بأسواق محددة وهامة، أي النشاطات التي لم تعد القوات العسكرية التقليدية راغبة، أو قادرة على القيام بها. إذ أصبح القادة العسكريون يعتبرون توظيف جنود لعدة سنوات للقيام بمهام معينة أمرا غير مربح، لذلك أصبحوا يفضلون تكليف هذه الشركات العسكرية الخاصة بجملة من المهام مثل الإمداد والتموين. شركات تجنيد المرتزقة.. سوق مُربحة – SWI swissinfo.ch
[5] . لا يوجد تشريعات أو قوانين دولية محددة وصارمة بخصوص الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة، وتعتبر “وثيقة مونترو”، والمعروفة أيضا باسم “المبادرة السويسرية”، التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 2008، الوثيقة الأساسية الناظمة لعمل الشركات الأمنية والعسكرية اليوم، حيث تضع معايير وممارسات غير ملزمة لهذه الشركات، أي قواعد عرفية بموجب القانون الإنساني الدولي.
0 تعليقات