بين أواخر العام 2005 ومطلع العام 2006 خاض الجيش اليمني آنذاك واحدة من أكثر المعارك المصيرية في تاريخ الحرب بين الدولة اليمنية والمتمردين الحوثيين، التي بدأت قبل ذلك بعامين تقريبا في الحرب الأولى التي انتهت بمصرع مؤسس الجماعة الحوثية حسين بدرالدين الحوثي في “جرف سلمان” بمنطقة “مران”، بعد أن اتخذ ضابط جريء ينتمي لمحافظة لحج (جنوب اليمن) قرارا مصيريا دون الرجوع للسلطات العليا في صنعاء، أطلق بموجبه الرصاصة الأخيرة على رأس حسين الحوثي، قبل أن يلقى هذا الضابط (ثابت مثنى جواس) حتفه بعد ذلك بثمانية عشر عاما، في تفجير سيارة مفخخة (شمالي عدن)، يرجّح أن الحوثيين أرسلوها انتقاما لمقتل مؤسس جماعتهم.
كانت الجماعة الحوثية تمر بأصعب أوقاتها بعد مقتل مؤسسها ومرشدها الروحي في العام 2004، والذي خلفه أخوه غير الشقيق، صغير السن والخبرة وعديم الكاريزما الذي قرر في لحظة حاسمة معدومة الخيارات أن يكمل طريق الحرب الذي شقه حسين الحوثي في جبال صعدة الوعرة.
وجد عبدالملك الحوثي الابن الأكثر تدليلا نفسه في مطلع العام 2006 محاصرا مع ثلة قليلة ويائسة من أتباعه، من قبل قوات الجيش اليمني في إحدى جبال “نقعة” الشاهقة شرق صعدة، يواجه الموت المحتوم، ويلوح أمام عينيه مشهد انهيار المسيرة القصيرة لمشروع أخيه الراحل، قبل أن يتدخل الكثير من الحظ، والكثير جدا من الحسابات السياسة الخاطئة والخيانات المخبأة في جلباب قادة الدولة اليمنية في صنعاء، ليردد قائد الحملة العسكرية الذي كانت تفصل بينه وبين كتابة نهاية تاريخ “التمرد الحوثي” في اليمن ساعات قليلة “ثلاثون علجًا ما عسى أن يكون أمرهم”!
والعبارة السابقة مقتبسة بالكامل عن قائد الحملة الإسلامية في الأندلس الذي لاحق آخر فلول المسيحية حتى لم يبق منهم إلا ثلاثون رجلا وامرأة وطفلا لجأوا إلى إحدى الكهوف المنيعة في أقصى شمال الأندلس، وتعرف اليوم “بصخرة بلاي”، وعندما حاصرهم وكاد يطوي تاريخ الدولة التي سبقت وصول المسلمين إلى الأندلس، استخف بهم في آخر الأمر وقال قولته المشهورة “ثلاثون علجًا ما عسى أن يكون أمرهم”، لكن هذا الكهف الصغير البارد والثلاثون المحاصرون والجائعون والخائفون فيه، تحولوا لاحقا، إلى ما سمّي “مهد إسبانيا”، حيث انطلقت منه حروب الاسترداد التي قضت على الدولة الإسلامية في الأندلس في نهاية المطاف، بسقوط دولة بني الأحمر في غرناطة سنة 1492.
وقصة “صخرة بلاي” في أقصى شمال الأندلس تشبه تماما من وجهة نظري قصة “جبل نقعة” في أقصى شمال اليمن، حيث تحولت الأخطاء الصغيرة إلى كوارث إستراتيجية في نهاية المطاف، وانتهت بضياع فردوس المسلمين في الأندلس بطريقة لا تقل بشاعة ووحشية ودراماتيكية عما آلت إليه أوضاع اليمنيين في ظل الاجتياح الحوثي الذي أسقط عاصمتهم صنعاء في العام 2014.
وفي قصة السقوط اليمني لا يمكن أن نعتبر الأمر مجرد خطأ إستراتيجي صرف، وإن كان يشبه للوهلة الأولى ذلك الخطأ المفترض القاتل، ولكنه خطيئة تاريخية، إذا ما اقتربنا قليلا من كواليس ما كان يدور من جدل بين النخب السياسة ومراكز القوى حول حروب صعدة التي تحولت إلى مادة للمماحكات السياسية وتصفية الحسابات بين تلك الأطراف التي دفعت في نهاية المطاف وبلا استثناء ثمن العبث بمثل هذه الملفات القاتلة التي قضت على مراكز القوى جميعا وقسمتهم بين قتيل وشريد وسجين ومخفي ومخاتل، ليدفع معهم الملايين من اليمنيين البسطاء ثمن هذا النزق السياسي والخيانة الوطنية إن صح التعبير.
وعلى الرغم من بلاغة الدرس السياسي الذي خلفته حروب صعدة ومآسيها المبكية ومآلاتها المريرة، إلا أن الكثير من القادة السياسيين اليمنيين الذين خاضوا غمار هذا الصراع، لم يستفيدوا أبدا منه، وما نشهده اليوم من أخطاء إستراتيجية صغيرة وكبيرة على حد سواء لبعض القادة في معسكر “الشرعية” الذين كانوا على مقربة من حروب صعدة، ندرك أنهم ما زالوا يرتبكون ذات الأخطاء أو الخطايا القاتلة، حينا من خلال الوقوع في فخ الوساطات والاتفاقات والهدن التي مهدت الطريق للحوثيين من صعدة إلى صنعاء بين عامي 2004 و2014، وحينا آخر عبر ممارسة نفس الدور الابتزازي الذي تعاملت به الكثير من القوى السياسية اليمنية مع حروب صعدة باعتبارها فرصة مناسبة للمحاكمات الداخلية وتسجيل النقاط والإيقاع بالخصوم السياسيين وتوريطهم.
وإذا ما فككنا واقع الملف اليمني وتداعياته المتلاحقة، في ظل “الهدنة الأممية” الهشة التي لم يلتزم بها الحوثيون، بقدر ما حوّلوها إلى استراحة محارب وقح يشهر الفأس في وجه الشجرة التي يستظل بها، ويقطف ثمارها في نفس الوقت دون خجل أو وجل، نجد أن المعادلة مختلة بالكامل، حيث يقف خصوم الحوثيين في العراء تقريبا دون إستراتيجية واضحة، يتلقون الضربات ويواصلون دون كلل لعب دور الطرف العاقل والملتزم في معادلة الحرب ويمضون قدما في سياسة الرهان على كسب ود المجتمع الدولي من خلال التعاطي المفرط مع طلبات المبعوث الأممي وسفراء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن التي يفرضها التعنت الحوثي، في سياسة بائسة أثبتت الأحداث أنها لم تزد الحوثيين إلا تصلبا، ولم توقف يوما سيل المطالب الدولية التي تتركز على كاهل الطرف “العاقل” لإرضاء الطرف “المجنون”!
كانت الجماعة الحوثية تمر بأصعب أوقاتها بعد مقتل مؤسسها ومرشدها الروحي في العام 2004، والذي خلفه أخوه غير الشقيق، صغير السن والخبرة وعديم الكاريزما الذي قرر في لحظة حاسمة معدومة الخيارات أن يكمل طريق الحرب الذي شقه حسين الحوثي في جبال صعدة الوعرة.
وجد عبدالملك الحوثي الابن الأكثر تدليلا نفسه في مطلع العام 2006 محاصرا مع ثلة قليلة ويائسة من أتباعه، من قبل قوات الجيش اليمني في إحدى جبال “نقعة” الشاهقة شرق صعدة، يواجه الموت المحتوم، ويلوح أمام عينيه مشهد انهيار المسيرة القصيرة لمشروع أخيه الراحل، قبل أن يتدخل الكثير من الحظ، والكثير جدا من الحسابات السياسة الخاطئة والخيانات المخبأة في جلباب قادة الدولة اليمنية في صنعاء، ليردد قائد الحملة العسكرية الذي كانت تفصل بينه وبين كتابة نهاية تاريخ “التمرد الحوثي” في اليمن ساعات قليلة “ثلاثون علجًا ما عسى أن يكون أمرهم”!
والعبارة السابقة مقتبسة بالكامل عن قائد الحملة الإسلامية في الأندلس الذي لاحق آخر فلول المسيحية حتى لم يبق منهم إلا ثلاثون رجلا وامرأة وطفلا لجأوا إلى إحدى الكهوف المنيعة في أقصى شمال الأندلس، وتعرف اليوم “بصخرة بلاي”، وعندما حاصرهم وكاد يطوي تاريخ الدولة التي سبقت وصول المسلمين إلى الأندلس، استخف بهم في آخر الأمر وقال قولته المشهورة “ثلاثون علجًا ما عسى أن يكون أمرهم”، لكن هذا الكهف الصغير البارد والثلاثون المحاصرون والجائعون والخائفون فيه، تحولوا لاحقا، إلى ما سمّي “مهد إسبانيا”، حيث انطلقت منه حروب الاسترداد التي قضت على الدولة الإسلامية في الأندلس في نهاية المطاف، بسقوط دولة بني الأحمر في غرناطة سنة 1492.
وقصة “صخرة بلاي” في أقصى شمال الأندلس تشبه تماما من وجهة نظري قصة “جبل نقعة” في أقصى شمال اليمن، حيث تحولت الأخطاء الصغيرة إلى كوارث إستراتيجية في نهاية المطاف، وانتهت بضياع فردوس المسلمين في الأندلس بطريقة لا تقل بشاعة ووحشية ودراماتيكية عما آلت إليه أوضاع اليمنيين في ظل الاجتياح الحوثي الذي أسقط عاصمتهم صنعاء في العام 2014.
وفي قصة السقوط اليمني لا يمكن أن نعتبر الأمر مجرد خطأ إستراتيجي صرف، وإن كان يشبه للوهلة الأولى ذلك الخطأ المفترض القاتل، ولكنه خطيئة تاريخية، إذا ما اقتربنا قليلا من كواليس ما كان يدور من جدل بين النخب السياسة ومراكز القوى حول حروب صعدة التي تحولت إلى مادة للمماحكات السياسية وتصفية الحسابات بين تلك الأطراف التي دفعت في نهاية المطاف وبلا استثناء ثمن العبث بمثل هذه الملفات القاتلة التي قضت على مراكز القوى جميعا وقسمتهم بين قتيل وشريد وسجين ومخفي ومخاتل، ليدفع معهم الملايين من اليمنيين البسطاء ثمن هذا النزق السياسي والخيانة الوطنية إن صح التعبير.
وعلى الرغم من بلاغة الدرس السياسي الذي خلفته حروب صعدة ومآسيها المبكية ومآلاتها المريرة، إلا أن الكثير من القادة السياسيين اليمنيين الذين خاضوا غمار هذا الصراع، لم يستفيدوا أبدا منه، وما نشهده اليوم من أخطاء إستراتيجية صغيرة وكبيرة على حد سواء لبعض القادة في معسكر “الشرعية” الذين كانوا على مقربة من حروب صعدة، ندرك أنهم ما زالوا يرتبكون ذات الأخطاء أو الخطايا القاتلة، حينا من خلال الوقوع في فخ الوساطات والاتفاقات والهدن التي مهدت الطريق للحوثيين من صعدة إلى صنعاء بين عامي 2004 و2014، وحينا آخر عبر ممارسة نفس الدور الابتزازي الذي تعاملت به الكثير من القوى السياسية اليمنية مع حروب صعدة باعتبارها فرصة مناسبة للمحاكمات الداخلية وتسجيل النقاط والإيقاع بالخصوم السياسيين وتوريطهم.
وإذا ما فككنا واقع الملف اليمني وتداعياته المتلاحقة، في ظل “الهدنة الأممية” الهشة التي لم يلتزم بها الحوثيون، بقدر ما حوّلوها إلى استراحة محارب وقح يشهر الفأس في وجه الشجرة التي يستظل بها، ويقطف ثمارها في نفس الوقت دون خجل أو وجل، نجد أن المعادلة مختلة بالكامل، حيث يقف خصوم الحوثيين في العراء تقريبا دون إستراتيجية واضحة، يتلقون الضربات ويواصلون دون كلل لعب دور الطرف العاقل والملتزم في معادلة الحرب ويمضون قدما في سياسة الرهان على كسب ود المجتمع الدولي من خلال التعاطي المفرط مع طلبات المبعوث الأممي وسفراء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن التي يفرضها التعنت الحوثي، في سياسة بائسة أثبتت الأحداث أنها لم تزد الحوثيين إلا تصلبا، ولم توقف يوما سيل المطالب الدولية التي تتركز على كاهل الطرف “العاقل” لإرضاء الطرف “المجنون”!
0 تعليقات