بغداد - علي الجنابي
إيهٍ يا عِراق...
قَالَ قائلٌ بِخطابٍ مُخلصٍ ناصحٍ، وبحَنانٍ متَوَدّدٍ، ورُبَما بإشفاق ياعِراق؛
"كانَ أولى لكَ ياصاحُ يومئذٍ الرحيلُ مِن العراق، وللفتنِ بإستباق، وإنَّكَ لتعلمُ أنَّ مآلَ العراقِ كهفٌ لخفافيش الليلِ ولبَولِها والبُزاق ".
كلّا ياجليسُ كلّا! ثمَّ كلَا، فلا طاقةَ لحوصَلَتي أن تقذفَ تربةَ العراقِ بيمينِ الطلاق!
كلّا ولا ناقةَ لبوصَلتي أن تَحذِفَ رتبةَ العراقِ بكمينِ الفراق! كلّا، رُغمَ أنَّ الحياةَ في دروبِ العراق ما بينَ عَدوِ سُعاةٍ وشَدوِ رُعاةٍ وبَدوِ فَلاةٍ باتت جَحِيماً لا تُطاقُ.
وإيهٍ يا عِراق...
أمَا وإنَّكَ لتَعلَمُ يَا نبضَاً بينَ التَّراقِ، بالوفاقِ بيني وبين ضفائرَ نخلِكَ ياعِرَاق:
فلَئِنْ أنتَ تَألَّقْتَ بِسُمُوٍّ فسَأَتَوَلَّهُ بِكَنَفِكَ، وَأتَرَفَّهُ في رُبُوعِكَ ياعِرَاق، ولَئِنْ أنتَ تَخَنَّقتَ فسَأتَأَوَّهُ بِدَنَفِكَ، وأتَأوَّهُ عندَ يُنبُوعِكَ ياعِرَاق. وَلئن مَالوا، وليَ كالوا فقالوا: "الوطنُ هو حيثما يكونُ المرءُ بخيرٍ" ومُتَفَكِّهاً مع جلّاسهِ بإنفاق، فسوفَ يميلُ عليهمُ ما لديَّ من قيلِ قلمٍ بإحتناقٍ وإتّساق؛
"كلّا، ولا فِراقَ بيني وبينَ عروقِ العِراق، حتّى تَبلُغَ منّيَ الرُّوحُ مَبلغَ التَّراقِ!
وإيهٍ ياعِراق...
عَقدَان بِمُرِّ الضُّرِّ قد مَرَّا، وأَنتَ مُحتَنِقٌ فكرةً وتأصيلاً بوجُومٍ مُرٍّ، وبإرهاقٍ ياعِراق.
عَقدَان بِضُرِّ المُرِّ قد ضَرَّا، وأنتَ مُختَنِقٌ بكرةً وأصيلاً بِسَمُومِ صَّرِّ، وبإطباقٍ ياعِراق...
فَلا بَيانَاً مِن ثَنَايَاكَ تَفرِزُ، ولا تِبيَانَاً بالأشوَاق يَتَعبَّقُ ياعِراق
ولا بَنَاناً مِن خَلايَاكَ يَبرِزُ، ولا بُنيَانَاً في الآفاقِ يَتَسَلَّقُ ياعِراق
ولا حَنَاناً مِن حَنَايَاكَ تَغمِزُ، ولا جِنَاناً بهِ الأحدَاقُ تَتفَلَّقُ ياعِراق.
بَغدَاديُّ وأبنُ بغدادَ أنا ياعِراق، وصِنفُ دَمِي هوَ راق، وهوَ ليَ راقٍ، وهوَ بِيَ بَاقٍ، وهوَ لغيركَ مِنَ الأمصارِ عاقٌّ ياعراق، ولا ولن يَستَوطنَ في أرجائها والآفَاقِ ياعِراق، فبغدادُ هيَ مَنبَعُهُ، وهيَ مُستَودَعُهُ، وهيَ لهُ التِّرياقُ ياعِراق، وهوَ ما هَاجَرَ هُنيهةً مِنها، ولن يهجُرَها ولو بَلَغَت الرُّوحُ التَّراقِ ياعِراق. بيدَ أنّهُ فيمَا هَهُنا هَمْساً إليكَ سيشكُو ببَثّهِ وحُزنِهِ من الأعمَاق ياعِراق، رُغمَ أنَّكَ بِعجَاجَةٍ صَفرَاءَ مُختَنِقٌ، وبِمجَاجَةٍ سودَاءَ مُحتَنِقٌ وكادَ أن يَضربَ صدرَكَ الإغلَاقُ ياعِراق؛
عَقدان قد مَرَّا، وعَينايَ لا تُطيقَانِ خروجاً وإنطلاقاً في "شارعِ الرشيد" رَغمَ التَّواقِ لدُرُوبِهِ والأشواق ياعِراق.
كيفَ ولمَ ذاكا ياعراق! ولمَ أضحَتْ دُرُوبُكَ دُرُوباً بالغَوغاءَ حَالِكةً، وفي الضَّوضاءَ دالِكةً، وبالجُهَلاءِ سالِكةً، حتَّى على شُجَيراتٍ فيها منزوعةَ الأورَاقِ ياعِراق، وأينَما تَوَلِّيَ مقلتايَ بنظرةٍ فَثَمَّةَ قُبَيصَةٌ مِن نذالةٍ برذالةٍ تَتَسَيَّدُ الدّروبَ والمِيادينَ بلا استحقَاق ياعِراق، فَتَرتَعشُ سَاعَتئذٍ عَينايَ مِن سَوءَةِ المِيدانِ ونهيقِ الأبواق، فَتَتَقَهقَرُ مِنهُ بِوَجَعٍ من إفترَاق ياعِراق، فتفِرُّ لواذاً الى الدّارِ، ومقلتي تحتنكُ دَمعَاً رقراق ياعراق.
أما وإنَّها ياعراق مَيادينٌ لا عِلمَ فيها ولا أذوَاق، ولا فيها حَلمٌ ولا أخلاق، ولا فَهمَ فيها ولا خَلاقَ ياعِراق. أما وإنَّها يا عراق مَيادينٌ تَتَرَجَّجُ بِنفاقٍ وَبشِقاقٍ بإستِغراق. وتَتَعَجَّجُ بِسِباقٍ والتِحاقٍ لإستِرقاق. وتَتَأَجَّجُ بإحتراقٍ مِن فُسَّاقٍ ياعِراق.
عَقدان مَرَّا، وَعَينايَ مَا رَأتْ "سَاحةَ الرَّصَافيِّ" بِتَلاقٍ ولا بتحيةٍ، ولن أطمعَ بعِناق! وَلَدُكَ الشَّاعِرُ "معروفٌ" معروفاً لديكَ، كاتبُ قَصيدَةِ (الإملاقِ) ياعِراق، ما رأيتُ ساحتَهُ رُغمَ أنَّ جَسَديَ مُعافى وكامِلُ الأوصاف، وَرَشَدَيَ مُوافى وحاملُ الإِنصافَ، ومَا أنا بِمُعاقٍ ياعِراق، ورَغمَ أنَّ داريَ قريبةٌ مِن سَاحةِ (صَاحبِ قافيةِ الإملاقِ)، وحذوَ ما أحِيطَ بهِ من أسواق ياعِراق، لكنَّ عَينِيَ تَتَخَوَّفُ من طأطأةِ الأسى أن تَتَرَمَّدَ بإلصاق، وجفنِيَ مِن تأتأةِ ال(عَسى) أن تَتَأَبَّدَا بإنغِلاقٍ ياعِراق.
فَمَتى تَعُودُ ألَايَا عِراقَ، وتَتَنَفَّسُ صُعَداءَ الإشراقِ يا عِراق
وَمَتى تَسُودُ ألَايَا عِراقَ، وتَتَلَبَّسُ رِداءَ العملاقِ يا عِراق
فإختِنَاقُكَ قد خَنَقَني، بَيدَ أنَّهُ لا فِراقَ بَينيَ وبَينَكَ ياعِراق
وإحتِنَاقُكَ قد حَنَقَني ولكن لا فراق، وذلكَ منّي وَعدٌ وعهدٌ بِميثاق، حتَّى تَبلُغَ منّيَ الرُّوحُ التَّراقِ ياعِراق. وأنّى ليَ إستبدالُ فُومِها وبَصلِها وقثّائِها بسماءِ دجلةَ، وبماءِ فراتٍ رقراق ياعراق! لعَمريَ أنّهُ إستبدالٌ دالٌّ لإنزلاقٍ، وما هو إستهلالٌ هالٌّ بإنعتاقٍ يا عراق، لكنَّ أكثرَ العشّاقِ لا يفقهونَ هولَ هذا الإستبدالَ وهذا الإختراقِ ياعِراق.
سلاماً ياعراق
ولَا فِرَاقَ يَا عِراقِ
0 تعليقات