عبد الحميد الصائح
تعدُّ ثلاثيةُ الحرية – الهجرة – البحث عن الذات ، أقدمَ محركاتِ تاريخ الإنسان على الأرض ، بل إنها كانتْ وماتزال قاسماً مشتركاً بين الواقعي من الأحداث والمتخيل من الأساطير والحكاياتِ والملاحم . فضلاً عن أنها المادة الأكثرغزارة للفنون والادب لما تستبطنه من تحولات وتحديات وآلام وآمال في سياق صراع الإنسان مع مايهدده في هذا العالم .لاسيما أن الحاجة الى الهجرة سواء المكانية أو المعنوية تدل في أبسطِ دوافعِها على حيرة الإنسان في بحثِه عن الحرية وسعيه الى الهروب مما هو فيه ، ولأن هذا الموضوع بهذه السعة وتنوع الأسباب، أصبحَ تناولُه فنياً مهمةً ليستْ باليسيرة ، بين التعبير العام والسرد السطحي وبين الارتقاء بالفكرة الى أقصى علوّها في السعي الى التغيير ، النفس أو الموطن وربما تغيير العالم ، حيث تتنوع فئات هذه الطبقة القلقة من مهاجر جائع يبحث عن حياة آمنة الى نبي مهاجر لنشر رسالة العدل الى ملك حالم يبحث عن الخلود ، لكنها في المحصلة هجرة ، وحرية ، وبحث عن الذات كيفما كان شكلها ومستويات أهدافها .
في العمل المسرحي ( Gate – البوابة ) الذي قدمته نقابة الفنانين في الديوانية بمشاركة أكاديمية الفنون فيها ، يغامر المخرج العراقي الدكتور حليم هاتف بالتصدي لهذا الأمر بتقديم عرض رفيع البلاغة متنوع الاشارة، بدءأ من تسمية العرض مترجماً – البوابة – حيث تعني الترجمة مقامين ووطنين ولغتين في عمل صامت صاخب مع انعدام الكلام فيه ،أي انه اختار لغة عناصر المسرح مجتمعة لتحكي حكايته وتبث موقف العرض وخلاصته. ومع موضوع معقد مثل الهجرة والألم والوطن والرحيل والتردد والغرق والانبعاث من الموت أو من الحياة الى أخرى ، يجعل المهمة صعبة لكنها مع حليم هاتف في Gate كانت طيعة وناطقة مع انسجام تام بين عناصر السنوغرافيا التي صممها بعناية وتتبع مدروس بمهارة ، وكأنه يقدّم درساً أكاديميا في اطار عمله استاذا في كلية الفنون ،باللون والجسد والموسيقى وتحولات المشاهد والتنسيق بين اداء العنصر الواحد تمثيل – ديكور – اضاءة – موسيقى – مرفقات اخرى . هذه الجموع التي تخرج من جحيم عذاباتها وحصارها النفسي والاجتماعي والسياسي أيضا ، ترحل بوسائل مختلفة ، براً وبحراً حيناً وعبر الحلم أحياناً ، جموع ارتكز العرض على أبرز شخصيتين فيها ، ينتقلان من صراع داخل الروح/ داخل الوطن باداءٍ اطلق المهمة للجسد بوصفه طاقة الدلالة الأساس الرئيسة – الانسان ، حيث ينوب جسده هنا عن فكرة وحلمه وايصال صوته للمشاهد مما يتطلب قدرة ادائية تعبيرية عالية لتحقيق ذلك، تعبير يتجاوز مهمة الايحاء والتلميح والصورة الدالة الى الصورة المشكلة الناطقة الصريحة ، مثال ذلك حين نرى الشخصيتين الرئيستين ، وهما تحاولان التخلص من مخاض العزلة والقلق والسعي نحو الحرية وجسور وبحار وأنفاق البحث عن الذات بعد خروجهما من البوابة رمزا لخروجهما من الوطن او من النفس المضطربة أو أصلا هما كانتا خارج هذا العالم ودخلتا ضجيجة وآثامه وتعقيده ، عندما تتدلى الحقائب من السماء كالمطر، كالآمال المعلقة وهما تمسكان بها بصعوبة بل تقاومان عصيان الحقائب على الرحيل . مشهد مؤثر فوق العادة ، عن قلق الهجرة الثقيل ، حين يكون الانسان بين خيارين خاسرين البقاء أو الرحيل، كلاهما مر وكلاهما له أسبابه وداوفعه وثمنه أيضاً . وقد أدى هذين الدورين الفنانين الشابين البارعين نوفل خالد وسيف الدين علاء الدين بتقنية الجسد المبدعة التي كانت وحدها قراءة معلنة لبواطن حليم هاتف الذي صمم السيناريو التفصيلي للعرض بادارة منتبهة لجميع ادوات عرضه . لينتج مفاصل تتبادل الأدوار بتلقائية ، كذلك مشهد البحر المثير الذي كان من أعمدة اسطورة الرحيل بمستوياتها المختلفة، ومشهد انبعاث الموتى ومشهد المعطف المثير الذي ادّاه سيف الدين بحرفة عالية. . لقد كان حليم هاتف واعيا لايقاع العرض بتنوعه الإبهاري ومشاهده المتعددة بسيطرة ذكية على ايقاع العرض، لينجز هذه الصرخة التي عبّرت في مجملها ومن خلال مشهدها قبل الأخير عن حجم الاحتجاج الذي يغلي في الروح الحالمة بالتغيير ، الروح التي يضيق بها المكان ويحاصرها ظلم الطبيعة وظلم السياسة وظلمها لنفسها عادة بسقف الطموح الذي لايجد مأوى وفي الوقت نفسه لاينطفيء!.
ربما يبدو تقييمنا هذا وكأننا نتحدث عن عرض متكامل، وهذا غير موضوعي في تجارب من هذا النوع لان ميزة هكذا منهج أن احتمالاته مفتوحة على صعد التأويل والتلقي والتأثير ، غير أن تجارب حليم هاتف السابقة المتنوعة التي يحاول أن لاتكون متشابهة شكلاً لاتخفي وحدة التوجه لدية ، الغور الى المأساة الانسانية سواء في عرض مسرحيته الرائعة ( سلة شكسبير) التي قامت على فكرة أن شخصيات شكسبير في اعماله تبحث عن مصائرها المعلقة ، او هذا العرض ، فالازمة الانسانية واحدة لدى هاتف ، لكنه ينوّعها تقديمها بين عرض وآخر ومنهج وآخر،انطلاقا من كونه مخرجاً مجتهدا وايضا معلّما لمادة المسرح التي تتطلب معرفة شاملة وتفصيلية بجميع متطلبات العرض المسرحي، لتبدو تجريبيته مختلفة، منضبطة، بعيدة عن الترهل والتكرار والفكرة الغامضة ليس طبيعياً الكتابة عنها بتجرد من عاطفة تغرسها عروضه في نفس المشاهد أو المراقب المختص ، فحليم هاتف في عروضه تلك لن يتركك محايداً، انحياز غير مضمون في أي اتجاه!.
لايمكن مع ختام هذه التحية التي أوجهها لنقابة الفنانين للعرض والقائمين عليه أن أشيد بطلبة قسم الفنون المسرحية الواعدين الذين كانوا خلية نحل فعلا لانجاز هذا العرض والذكاء والمهارة التي تمتع بها حيدر حسين وعلي الساهر في إعداد الموسيقى ومنفذها حيدر حليم ، ومنفذي تقنيات العرض محمد سلمان وزياد موسى ، ومبدع الاضاءة علي المطيري الذي كان هو و الدكتور حليم هاتف يحكيان الحكاية بجمال وبراعة.
في العمل المسرحي ( Gate – البوابة ) الذي قدمته نقابة الفنانين في الديوانية بمشاركة أكاديمية الفنون فيها ، يغامر المخرج العراقي الدكتور حليم هاتف بالتصدي لهذا الأمر بتقديم عرض رفيع البلاغة متنوع الاشارة، بدءأ من تسمية العرض مترجماً – البوابة – حيث تعني الترجمة مقامين ووطنين ولغتين في عمل صامت صاخب مع انعدام الكلام فيه ،أي انه اختار لغة عناصر المسرح مجتمعة لتحكي حكايته وتبث موقف العرض وخلاصته. ومع موضوع معقد مثل الهجرة والألم والوطن والرحيل والتردد والغرق والانبعاث من الموت أو من الحياة الى أخرى ، يجعل المهمة صعبة لكنها مع حليم هاتف في Gate كانت طيعة وناطقة مع انسجام تام بين عناصر السنوغرافيا التي صممها بعناية وتتبع مدروس بمهارة ، وكأنه يقدّم درساً أكاديميا في اطار عمله استاذا في كلية الفنون ،باللون والجسد والموسيقى وتحولات المشاهد والتنسيق بين اداء العنصر الواحد تمثيل – ديكور – اضاءة – موسيقى – مرفقات اخرى . هذه الجموع التي تخرج من جحيم عذاباتها وحصارها النفسي والاجتماعي والسياسي أيضا ، ترحل بوسائل مختلفة ، براً وبحراً حيناً وعبر الحلم أحياناً ، جموع ارتكز العرض على أبرز شخصيتين فيها ، ينتقلان من صراع داخل الروح/ داخل الوطن باداءٍ اطلق المهمة للجسد بوصفه طاقة الدلالة الأساس الرئيسة – الانسان ، حيث ينوب جسده هنا عن فكرة وحلمه وايصال صوته للمشاهد مما يتطلب قدرة ادائية تعبيرية عالية لتحقيق ذلك، تعبير يتجاوز مهمة الايحاء والتلميح والصورة الدالة الى الصورة المشكلة الناطقة الصريحة ، مثال ذلك حين نرى الشخصيتين الرئيستين ، وهما تحاولان التخلص من مخاض العزلة والقلق والسعي نحو الحرية وجسور وبحار وأنفاق البحث عن الذات بعد خروجهما من البوابة رمزا لخروجهما من الوطن او من النفس المضطربة أو أصلا هما كانتا خارج هذا العالم ودخلتا ضجيجة وآثامه وتعقيده ، عندما تتدلى الحقائب من السماء كالمطر، كالآمال المعلقة وهما تمسكان بها بصعوبة بل تقاومان عصيان الحقائب على الرحيل . مشهد مؤثر فوق العادة ، عن قلق الهجرة الثقيل ، حين يكون الانسان بين خيارين خاسرين البقاء أو الرحيل، كلاهما مر وكلاهما له أسبابه وداوفعه وثمنه أيضاً . وقد أدى هذين الدورين الفنانين الشابين البارعين نوفل خالد وسيف الدين علاء الدين بتقنية الجسد المبدعة التي كانت وحدها قراءة معلنة لبواطن حليم هاتف الذي صمم السيناريو التفصيلي للعرض بادارة منتبهة لجميع ادوات عرضه . لينتج مفاصل تتبادل الأدوار بتلقائية ، كذلك مشهد البحر المثير الذي كان من أعمدة اسطورة الرحيل بمستوياتها المختلفة، ومشهد انبعاث الموتى ومشهد المعطف المثير الذي ادّاه سيف الدين بحرفة عالية. . لقد كان حليم هاتف واعيا لايقاع العرض بتنوعه الإبهاري ومشاهده المتعددة بسيطرة ذكية على ايقاع العرض، لينجز هذه الصرخة التي عبّرت في مجملها ومن خلال مشهدها قبل الأخير عن حجم الاحتجاج الذي يغلي في الروح الحالمة بالتغيير ، الروح التي يضيق بها المكان ويحاصرها ظلم الطبيعة وظلم السياسة وظلمها لنفسها عادة بسقف الطموح الذي لايجد مأوى وفي الوقت نفسه لاينطفيء!.
ربما يبدو تقييمنا هذا وكأننا نتحدث عن عرض متكامل، وهذا غير موضوعي في تجارب من هذا النوع لان ميزة هكذا منهج أن احتمالاته مفتوحة على صعد التأويل والتلقي والتأثير ، غير أن تجارب حليم هاتف السابقة المتنوعة التي يحاول أن لاتكون متشابهة شكلاً لاتخفي وحدة التوجه لدية ، الغور الى المأساة الانسانية سواء في عرض مسرحيته الرائعة ( سلة شكسبير) التي قامت على فكرة أن شخصيات شكسبير في اعماله تبحث عن مصائرها المعلقة ، او هذا العرض ، فالازمة الانسانية واحدة لدى هاتف ، لكنه ينوّعها تقديمها بين عرض وآخر ومنهج وآخر،انطلاقا من كونه مخرجاً مجتهدا وايضا معلّما لمادة المسرح التي تتطلب معرفة شاملة وتفصيلية بجميع متطلبات العرض المسرحي، لتبدو تجريبيته مختلفة، منضبطة، بعيدة عن الترهل والتكرار والفكرة الغامضة ليس طبيعياً الكتابة عنها بتجرد من عاطفة تغرسها عروضه في نفس المشاهد أو المراقب المختص ، فحليم هاتف في عروضه تلك لن يتركك محايداً، انحياز غير مضمون في أي اتجاه!.
لايمكن مع ختام هذه التحية التي أوجهها لنقابة الفنانين للعرض والقائمين عليه أن أشيد بطلبة قسم الفنون المسرحية الواعدين الذين كانوا خلية نحل فعلا لانجاز هذا العرض والذكاء والمهارة التي تمتع بها حيدر حسين وعلي الساهر في إعداد الموسيقى ومنفذها حيدر حليم ، ومنفذي تقنيات العرض محمد سلمان وزياد موسى ، ومبدع الاضاءة علي المطيري الذي كان هو و الدكتور حليم هاتف يحكيان الحكاية بجمال وبراعة.
0 تعليقات