بقلم: صفوة فاهم كامل
بعد ثلاثة عشر عامًا على رحيله وفي خطوة جريئة من ابنته الصغرى، صدر عن مكتبة دجلة للطباعة والنشر والتوزيع في بغداد، معجم فخمٌ في حجمه، ثريٌّ بمحتواه، نادرٌ بمجهوده، جميلٌ بأسلوبه، وكبيرٌ باسمه.
الكتاب حمل عنوان (معجم القبائل والعشائر والأسر العربيَّة في العراق) لمؤلِّفَيه الراحل نعمان ماهر الكنعانيّ والدكتورة ثريَّا نعمان ماهر. هو كتاب يبحث بشيء من الإسهاب والتفسير في علم الأنساب وتوثيقها، ويستعرض إحصاءً شاملًا لأنساب عرب العراق.
والمصادر العربية العديدة اختلفت في إثبات الموطن الأول للعرب، فبعضها يرى أنَّهم جاؤوا إلى الجزيرة العربية من اليمن فيكون اليمن أصل العرب، بينما يرى فريق آخر أنَّ البذرة الأولى للعرب كانت في أرض بابل في العراق، وهكذا هي الاختلافات والتباينات في الآراء...! لكن الذي ليس فيه خلاف حتمًا هو أنَّ العرب موجودون في أرضهم قبل الميلاد بمئات السنين وأنَّه ليس ثمَّة ما يمنع حركة القبائل في اتجاهين.
ومن المعلوم أنَّ عِلم الأنساب عند العرب ومنذ القِدم لم يكن وسيلة للتمييز العنصري أو التمايز الطبقي الاجتماعي والديني وإنَّما كان وسيلة للرقي والتهذيب الاجتماعي والأخلاقي بأرقى صوره، وما الكرم والشجاعة والمروءة والنبل والحكمة وغير ذلك من الصفات الجليلة إلَّا وسيلة من وسائل النَّسَب التي تفاخرَ بها الأجداد. وإنَّ العرب أمَّة نسَّابة اجتهدت في تحرِّي أصولها ونسَبها الصحيح وحفظتها عبر تاريخها الطويل لمواجهة الحركات الشعوبية التي تستهدفها وتستهدف لغتها لئلَّا ينضوي أحدٌ لغير آبائه الحقيقيين، فقد قال رسول الله ﷺ: (اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم فإنَّه لا قرب بالرحم إذا قطعت وإن كانت قريبة ولا بعد بها إذا وصلت وإن كانت بعيدة). ومعرفة الأنساب من أعظم النعم التي أكرم الله تعالى بها عباده؛ لأنَّ تشعُّب الأنساب على افتراق القبائل والطوائف، أحد الأسباب الممهِّدة لحصول الائتلاف وكذلك اختلاف الألسنة والصور وتباين الألوان. والمرء حين ينتسب لقومه فإنَّه يتخلَّق بأخلاقهم وإذا علا به نسبه علت بهِ أخلاقه وتحلَّى بالمكارم منها كرمًا ونخوة ومروءة وحمايةً للجار وحفظًا للعهد.
وكُتب الأنساب حسب رأي الفقيه الأصولي المؤرخ أبي منذر سلمة بن مسلم العَوْتبي الصُّحاري، صاحب كتاب (الأنساب)، هي أكثر معونة وفائدة لطالب الأدب والعلم والفقه من غيرها من الكتب.
وعليه ظهر هذا الكتاب بجهود مباركة من مؤلِّفَيه ليحصي أنساب عرب العراق ويعرضها بأسلوب بيِّن يسير فالنسب أساس الشرف ومناط الفخر وبه يُعرف اللصيق من الصميم والعريق.
نعمان ماهر الكنعانيُّ الحسنيُّ السَّامرَّائيُّ، المولود في مدينة سامرَّاء الشامخة سنة 1919 وشيخ عشيرة ألبو كنعان، هو من أسرة آل ماهر الحَسَنيَّة التي ترجع جذورها إلى الحجازية القرشية العدنانية العربية، وهو ضابطٌ محترف وأديبٌ ضليع ومترجم قدير وشاعرٌ معروف، له عدد غير قليل من الدواوين الشعرية المطبوعة والمؤلَّفات والمقالات المنشورة. شغل منصب وكيل وزارة الثقافة والإرشاد في عهد الرئيسَين العارفين. وكان قد انتهى من كتابة مسوَّدة كتابه هذا عام 1990 بعد عملٍ مضنٍ وشاق استغرق عقدين من الزمن ونيِّفاً فثبَّت بذلك علم الأنساب في العراق ومعرفة كل مواطن هويته المميّزة بأركانها الثقافية والقيمية والأخلاقية، وصحِّة الانتساب للعشيرة بعيدًا عن أي تغيُّرات وظروف قد تحصل، سياسية أم اقتصادية، وزاد على ذلك أصول العشائر العربية التي سكنت العراق واتخذته موطنًا لها. لكنَّ المسوَّدة ظلَّت -للأسف-حبيسة رفوف مكتبته لثلاثة عقود خلت حتى أصفرَّت أوراقها وعَلاها غبارٌ كثيف، ولم يُطلق سراحها لأسباب شتَّى إلى أن وافته المنيَّة في السابع عشر من شهر آب عام 2010.
أما الدكتورة ثريَّا نعمان، الاستشارية في طبِّ العيون وجراحتها، والمولعة كأبيها بالأدب والشعر، فبعد وفاته بسنوات اجتهدت وعقدت العزم على أن تنفض عن مخطوطة أبيها ذلك الغُبار لتصبح كنوزها حيَّة يراها النور، لأنَّها رأت أن لا فضل لعلمٍ محفوظ في بطون الأدراج أو على رفوف المكتبات فلا يطَّلع عليه أحد ولا يستزيد من حقائقه هذا الجيل والأجيال القادمة. وقد أهدت مشكورةً نسخة من كتابها لكاتب هذه السطور قبل توزيعه في المكتبات.
وفضلًا عمَّا بذلته من جهد واضح وشاق فإنَّ الطبيبة الأديبة ثريَّا استعانت بالنسَّاب السيد عبد الكريم الحوفي الحسني الذي حقَّق المُعجم وزاد عليه ممَّا توفر له من مصادر موثوقة وبما يليق وقيمة هذا الكتاب. وأعانها أيضًا عدد من الشخصيات ذات المقام الحميد في معلومات أخر ومراجعات للكتاب وتنضيده وإعداده وتجهيزه للطبع، إذ بذلوا معها جهدًا مخلصًا لإنجازه، كما استعانت بعشرات الكتب الرصينة ذات العلاقة التي يسَّرت مهمتها الشاقة النبيلة لاحتواء كل شاردة أو واردة لم تحصل عليها أصلًا.
هذا المعجم النفيس احتوى على أكثر من ستمائة وخمسٍ وعشرين اسمًا معرّفًا لقبيلة أو عشيرة عربية وعراقية، نظّمها وسلسلها المؤلِّفان حسب الأحرف الهجائية، مع ملحق بمخطَّطات لأنساب كثير من القبائل لسهولة التعريف بها والوصول إليها ضمن صفحات الكتاب البالغة ثمانمائة وعشرين صفحة من القطع الكبير وبطباعة فاخرة وغلاف من المقوَّى الأنيق تليق بعنوانه ومكانة مؤلِّفَيه.
ومن يقلِّب الكتاب ويقرؤه برويَّة سيجد لغته وملاحظاته كتبت بأسلوب أدبي جذَّاب شيِّق هو أسلوب الأديب الكنعاني في شعره وكتاباته للتعبير عمَّا يجول في خاطره، جمَّلتها أبيات من الشعر من نظم المؤلِّف نفسه وآخرين من نوابغ الشعر العربي خُصَّت بها القبائل والعشائر على مدى قرون.
(معجم القبائل والعشائر والأسر العربيَّة في العراق) كنزٌ لا بدَّ أن تحتويه المكتبة الشخصية لكل عراقي وكذلك المكتبات العامة والخاصة للجامعات العراقية، ومرجعٌ لا بدَّ أن يقتنيه رئيس كل قبيلة أو شيخ عشيرة عراقية، لأنَّ فحواه تمسُّ انتماء كل أسرة وأصولها بغض النظر عمّا يمكن أن يصادفه القارئ من سهو أو زلل غير مقصود؛ فمع شدَّة عناية العرب بتدوين أنسابهم قد يتعذَّر الوقوف بشكل دقيق على الأصل الذي انحدرت بعض القبائل منه بسبب ضياع الكثير ممَّا كُتب قديمًا أو للتشويه الذي حدث لاحقًا من أهل الخلط.
وخليق ٌأيضًا أن أشدُّ على يد الدكتورة ثريَّا وأبارك لها بألطف العبارات إنجازها الثرَّ وإكمالها مسيرة والدها -رحمه الله-في تحقيق حلمهِ وهو في علّيّين ووفاء لتاريخه ولمدينته وعشيرته وأسرته.
ختاماً، علينا ألَّا ننسى أنَّ التفاخر بالأنساب ليس لنا يدٌ فيه لكنَّ التفاخر بأخلاقنا مرجَّحٌ لأنَّنا نحن من يصنعه... وصدق حكيم البُلغاء الأمام علي بن أبي طالب في كلامه عن النسب حين قال:
أيُّها الفاخر جهلًا بالنسبِ
إنَّما الناسُ لأمٍّ ولأبْ
هل تراهم خُلقوا من فضَّةٍ
أم حديدٍ أم نحاسٍ أم ذهبْ
بل تراهم خُلقوا من طينةٍ
هل سوى لحمٍ وعظمٍ وعَصَبْ
إنَّما الفخرُ لعقلٍ ثابتٍ
وحياءٍ وعفافٍ وأدبْ
0 تعليقات